التخطيط العسكري ما بين الجيش السوري وبين الجماعات المسلّحة
اذا رجعنا الى الوراء ثلاث سنواتٍ وبضعة أشهر لنسترجع الشعارات الثورية الرنّانة التي أطلقها دعاة الثورة في سورية، حول مفاهيم العدالة والحرية وإسقاط الطغيان والاستبداد والنهوض بسورية كدولةٍ مدنية، يمكننا أن نشاهد كيف أنها سرعان ما تبدّلت لتصبح "حرب أهل السنّة" لشدّ العصب بفعل صمود الدولة والجيش في سورية، حيث كان مخططو الحرب على سورية يأملون أن يتفكك الجيش بفعل الانشقاقات التي لم تحصل، وأن تنهار الدولة والمؤسسات التي تبيّن أنها تتجاوز ما يُطلق عليها أنها "نظام" وحسب، ولتثبت أنها منظومةٌ متكاملةٌ ومتماسكة، قادرة على التعلّم من العبر والأحداث.
وبالدخول الى صلب الموضوع، فقد تمثلّت خطة المعارضة المسلحة بالسيطرة على الحدود السورية المشتركة مع لبنان والعراق والأردن وتركيا، حيث كان هدف السيطرة على الحدود مع تركيا إسقاط إدلب وحلب بشكلٍ رئيسي، وإسقاط حمص من خلال تلكلخ ودمشق من القلمون عبر الحدود مع لبنان، وإسقاط درعا والاندفاع منها أيضاً الى دمشق، أما في المنطقة الشرقية المحاذية للحدود مع العراق وتركيا فما زالت كبرى مدن المنطقة دير الزور تحت سيطرة الجيش السوري إضافةً الى مواقع انتشار الفرقة 17.
لم تكن الجماعات المسلّحة لتلجأ الى هذا التوجه لو أنّ خطة إسقاط سورية سارت بالشكل المرسوم لها.
وخلال الأشهر الأولى من الصراع، أدركت القيادة السورية أنها أمام معركة مفتوحة وطويلة، وبدأت القيادة العسكرية السورية بوضع خططها بحسب مستجدات الوضع الميداني، وكانت الأولوية في تلك المرحلة الحفاظ على المدن الكبرى والطرقات الرئيسية، والدفاع عن المطارات والقواعد العسكرية الكبرى والمواقع الاستراتيجية.
كانت معركة الشهور الأولى هي الأصعب والأقسى على الجيش السوري، بحيث يمكننا أن نسمّيها مرحلة الصمود، والتي خسر فيها الجيش مناطق هامة في كل الأرياف السورية، حيث ركّزت الجماعات المسلحة جهدها البشري والناري للانطلاق باتجاه المدن.
وبمعزلٍ عن العجز الاستخباراتي للجيش السوري في توصيف وتعريف الهجمة وتحديد أهدافها، إلّا أنّ هذا الأمر تمّ تجاوزه بسرعة عبر معالجاتٍ عديدة.
وهنا لا بدّ من الإشارة الى استعجال الجماعات المسلحة وقوى 14 آذار اللبنانية في جعل حزب الله يدخل الى معادلة الحرب السورية، ليكون له الدور الهام الى جانب وحدات الجيش السوري، سواء في التخطيط أو القتال أو دمج أنماط القتال وغيره مما سنستعرضه بعد عرض الأسباب التي جعلت حزب الله يدخل الى معادلة الحرب السورية.
مخططو الحرب على سورية، وبعد أشهرٍ من الهجمة، أدركوا أنّ السير بالشعارات التي طُرحت لن يُسقط النظام، وبالتالي يجب العمل في الاتجاه المذهبي لشدّ العصب وتوسيع قدرة الحشد لخلق حالة سنية كبيرة بمواجهة الحالة الشيعية – العلوية.
يُذكر أنّ المجموعات الأولى للحزب دخلت الى سورية لحماية المقامات المقدسة بعد تهديد الجماعات المسلحة باقتحامها وهدمها، كما لا بدّ من الإشارة الى أنّ هذه المجموعات لم تشترك طيلة أشهر في أية أعمالٍ قتالية، وكان دورها يقتصر على حماية المقامات.
الخطأ الكبير الذي وقعت فيه الجماعات المسلحة كان قرار تطهير القرى المحاذية لمنطقة الهرمل، وهي قرى تسكنها أغلبية لبنانية محسوبة على حزب الله، ما أدى الى دخول الحزب على خطّ المعركة التي انتهت بسقوط مدينة القصير، التي شكّلت التأريخ المباشر بعد باب عمرو في حمص لمرحلة الهجوم المضاد المستمر منذ سنة.
أما لماذا استعرضنا المسألة في هذا السياق، وما ارتباط حزب الله بموضوع بحثنا؟ فلأنّ دخول الحزب معركة سورية أحدث تغييراً نمطياً في العقل العسكري السوري الذي تماهى سريعاً مع أساليب وتكتيكات حزب الله، وذهب باتجاهٍ مغايرٍ تماماً في العمليات العسكرية التي يعتمدها في المواجهة.
وهنا لا يمكننا أن نتجاهل الإبداعات الكبيرة التي قدّمها ضباط الجيش السوري، سواء على مستوى القيادات العليا أو على مستوى ضباط الجبهات وبقع القتال المباشرة.
فماذا حصل بالضبط، وما هي الأساليب الأساسية التي اعتمدها الجيش السوري والجماعات المسلّحة في المعركة الدائرة على الأرض السورية؟
- لم تسجّل الحرب في سورية ما يمكن أن نطلق عليه خطط أو تكتيكات الجماعات المسلحة في مواجهة الجيش السوري، ولكنّ المسلّحين حاولوا تطبيق ما جاء في بعض قواعد الحرب الأساسية والذي تمثّل في بداية الهجمة بخوض الحرب النفسية والإعلامية، من خلال التظاهرات والشعارات، وكان هدفهم إسقاط سورية في معركةٍ واحدة دون الاضطرار الى خوض مئات المعارك، ولكنهم سرعان ما تخلّوا عن هذا الأسلوب لأنّ القيادتين السياسية والعسكرية أدركتا الأهداف وعملت على تقويضها، ما جعلهم يغيّرون شعاراتهم وأساليبهم والاندفاع في خوض المعركة العسكرية التي كانت على طاولة المخططين كإجراءٍ من ضمن العديد من الإجراءات التي اضطروا الى تغييرها مئات المرات طيلة فترة الحرب.- والأسلوب الذي اعتمدته الجماعات المسلحة، وما زالت حتى الآن بعد انتقال الجيش السوري الى مرحلتي الدفاع والهجوم، هو:
1- إقامة التحصينات والدشم والخنادق في أماكن تواجدها.
2- القيام بعمليات هجوم بأعداد كبيرة على نقاط صغيرة كالحواجز ونقاط الرصد المتقدمة.
3- خطف عسكريين أو مدنيين واستعمالهم كورقة ضغط إعلامية ونفسية.
4- تفجير مواقع وأماكن عبر حفر أنفاقٍ بهدف دبّ الرعب وإحداث الصدمة، كالتمهيد للهجوم واحتلال مواقع جديدة (لم يفلح المسلحون في أي من هذه التفجيرات في التقدم واحتلال مواقع جديدة).
5- لم يسجّل في أي من معارك سورية استخدام الجماعات المسلحة أنساقاً قتالية يمكننا القول أنها غيرّت في شكل الميدان أو توزع القوات أو تحقيق انتصارات مهمة.
6- لم تستطع هذه الجماعات أن تتوحد في إطارٍ تنظيمي موحّد تديره غرفة عمليات موحدة، إضافةً الى وجود الكثير من التناقضات الفكرية والتي أدّت وما زالت الى تطاحن وتناحر هذه الجماعات فيما بينها.
7- لم تستطع وسائل هذه الجماعات أن تؤدي دوراً جامعاً، بل على العكس أثرّت تجاذباتها على جماهيرها التي فقدت الثقة بهذه الجماعات.
8- العامل الأهم في فقدان هذه الجماعات قوتها، التي تتهاوى يوماً بعد يوم، هو تحوّلها بنظر حاضنتها الشعبية الى عصابات تشكل مصدر خوف ورعب، فيما كان أمل الحاضنة الشعبية أن تشكّل منقذاً وداعماً.
أما في الجهة المقابلة، فإننا نرى جيشاً رغم عبء المواجهة الكبير استطاع أن يصمد ويخطّط ويُبدع ويصنع الانتصار تلو الانتصار، فما هي أهم عوامل انتصار الجيش السوري:
1- تماسك القيادتين السياسية والعسكرية رغم الضربة التي تعرضت لها من خلال تفجير الأركان.
2- التأكيد على وحدة الإرادة والموقف والقرار في مواجهة الهجمة.
3- اعتماد مبدأ الجمع بين مركزية التخطيط الشامل من خلال مشاركة وإشراف القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة على وضع الخطط، وغياب المركزية في التنفيذ من حيث ترك المجال لقادة الجبهات في اختيار الأساليب وحجم ونوع العمليات العسكرية وتوقيتها، إضافةً الى وضع المطارات العسكرية بتصرّف قادة الجبهات والسماح لهم بطلب التغطية الجوية عند الحاجة ودون المرور بالأركان.
4- التخلّي عن البيروقراطية العسكرية في موضوع تمرير الأوامر وإعطاء ضباط الميدان حرية واسعة، إضافةً الى ما يمكن تسميته بـ"الديموقراطية العسكرية"، من خلال اشتراك الجنود وضباط الصف في خطط الدفاع والهجوم على مستوى بقعة الاشتباك.
5- الاهتمام بالحرب الالكترونية والإعلامية لمراقبة خطط واتصالات الجماعات المسلحّة ومتابعة أماكن وجودها وتحركاتها.
6- استنباط أساليب عمل استخباراتي جديدة تتناسب مع مستجدات الميدان، ومكننة قواعد المعلومات لتسهيل إجراء التحليل والتقاطعات واختصار زمن إصدار القرارات.
7- استخدام الأسلحة الثقيلة (المدفعية والدبابات والصواريخ) بطريقة مختلفة عن تلك المستخدمة في الجيوش النظامية.
8- تدريب أعداد كبيرة من الجنود على قتال العصابات ودمجهم مع الوحدات الخبيرة في هذا النوع من القتال (وحدات النخبة والمهام الخاصّة).
9- اعتماد أسلوب الإشباع الناري مع المناورات والخداع ضمن أنساق هجومية تتفاوت بين فصيلة المشاة والفوج وأحيانا اللواء.
قد لا يكون هذا الاستعراض كافياً لتوضيح الكثير من التفاصيل، ولكنه بالتأكيد محاولة لتبيان الفوارق التي أدّت وستؤدي الى نتائج يعرف المتخصصون في العلوم العسكرية سواء كانوا في صف الأصدقاء أو الأعداء، أنّ الجيش السوري هو المنتصر في ميدان المعركة، رغم ما تشهده جبهة العراق وانعكاس الأمر على الجبهة الشرقية، من خلال التهويل بتنامي قوّة "داعش" وامتلاكها للسلاح الفتّاك وكلّ ما يشاع ويتمّ تضخيمه.
http://www.shaamtimes.net/news-details.php?id=7401