أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، اذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بالاطلاع على القوانين بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة المواضيع التي ترغب.
الـبلد : المهنة : College studentالمزاج : اللهم سلم السودان و اهل السودان التسجيل : 09/05/2011عدد المساهمات : 7924معدل النشاط : 6296التقييم : 271الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 17:24
[rtl]الأصل الأفريقي للحضـارة : خرافـة أم حقيقـة 3 .....[/rtl]
[rtl]الفصل الثالث
التزوير الحديث للتاريخ
إنّ مشكلة التزوير الأكثر ضخامة في تاريخ الإنسانية بواسطة المؤرخين المعاصرين لم تطرح بشكل أفضل مما طرحه (فولني) . لم يكن لأحد أكثر قدرة منه على رد العدل إلى الجنس الأسود وذلك بالإعتراف بدور ذلك الجنس كدليل رائد للجنس البشري على طريق الحضارة . كان على إستنتاجاته أن تستبعد التلفيقات المتتالية لجنس إفتراضي فرعوني أبيض ، زعم أنه نقل الحضارة المصرية من آسيا عند مطلع الحقبة التاريخية . في الواقع فإن هذه الفرضية صعبة الإستمالة مع واقع أبو الهول الذي هو صورة لفرعون له رأس إنسان أسود . إن الشكل متاح للجميع لرؤيته فمن الصعب إهماله كحجة شاذة أو إحالته إلى مستودعات المتاحف لإبعاده عن التأمل المحفوف بالمخاطر لأؤلئك الذين هم عرضة لقبول دليل واقعي .
بعد (فولني) جاء رحالة أخر هو (دوميني دي رينزي) في أوائل القرن التاسع عشر ليصل إلى إستنتاجات مماثلة بعض الشيء تتعلق بالمصريين (( إنه صحيح إلى الوراء في الماضي البعيد فإن الهنود الحمر داكني اللون والسلالة المصرية هيمنوا ثقافيا على السلالات الصفراء والسوداء وحتى عرقنا الأبيض الذي سكن بعد ذلك آسيا الغربية . في ذلك العصر كانت سلالتنا متوحشة نوعا وموسّمة بالوشم كما صّور ذلك على مدفن (سيسوستريس 1) في وادي بيبان الملوك في – طيبه - مدينة الآلهة )) . بقدر ما أنّ الجنس الأحمر الداكن مثيرا للإهتمام ، فسوف نرى ببساطة أنه مجموعة فرعية من الجنس الأسود مثلما ظهر في آثار تلك الفترة . في الواقع فإنه ليس هناك جنس أحمر داكن . إن ما يسمى بالأعراق الوسيطة ربما تكون نتاج للتهجين . يظهر الشكل (28) أنه ليس هناك علاقة للون الأحمر الداكن بالمصريين ، بل لون البشرة الطبيعي للزنوج ، فإذا تحدث (رينزي) عن العرق الأحمر الداكن بدلا من العرق الأسود فذلك لأنه لم يستطيع التخلص من تحيزات عصره . على أي حال فإن ملاحظاته عن حال العرق الأبيض ثم التوحش والوشم ، بينما الجنس (الأحمر الداكن) متحضر سلفا ، يجب أن تمنع أي محاولة لتفسير منشأ الحضارة المصرية بأنها عائدة للبيض . لقد توسع (شامبليون) للحديث بمهانة عن الحالة المتأخرة للبيض في الوقت الذي كان فيه عمرالحضارة المصرية عدة الأف من السنين .
في عام 1799 بدأ (نابوليون) حملته في مصر . بفضل (حجر رشيد) جرى فك شفرة اللغة الهيروغلوفية بواسطة شامبليون الأصغر عام 1822 الذي توفي عام 1832 وترك لشقيقه (شامبليون – فيجاك) مذكرته الوصفية وهي عبارة عن قواعد مصرية وسلسلة من الرسائل ، رسائل كتبت أثناء زيارته لمصر في الفترة ما بين (1828 – 1829) . نشرت هذه الرسائل في عام 1833 بواسطة (شامبليون – فيجاك) . منذ ذاك أخترق جدار الهيروغليفية ، مما كشف عن ثراء مدهش في تفاصيلها . لقد دهش علماء الآثار بإعجاب لمهابة وإتقان الماضي الذي إكتشفوه . لقد أدركوا تدريجيا أنها الحضارة الأكثر عراقة التي أنجبت كل الحضارات الأخرى ، لكن بفعل الإمبريالية أيّا كانت فقد أصبح قبول النظرية التي تقول بزنجية مصر – الواضح حتى الآن - مرفوض بشكل متزايد . بالتالي فإن مولد علم الآثار المصرية تميز بالحاجة إلى تدمير ذاكرة مصر الزنجية في كل الأذهان وبأي ثمن . لذا فإن الصفة المشتركة لكل أطروحات علماء الآثار المصرية وعلاقتها الوثيقة وتماثلها العميق ، يمكن أن توصف بمحاولة يائسة لدحض ذلك الرأي ، فيما يشدّد كل علماء الآثار تقريبا على زيفه كمادة منهجية . عادة فإن محاولات الدحض هذه تأخذ الشكل التالي :
عدم القدرة على إكتشاف أي تناقض في الروايات الرسمية للقدماء بعد مواجهة موضوعية مع كامل الواقع المصري وبناء على عدم القدرة على نقضها فإنهم إما أن يلزموا الصمت تجاهها أو يرفضونها بشكل قاطع ومهين . إنهم يعبرون عن أسفهم من أن قدماء المصريين إرتكبوا خطأ فادحا مما نتج عنه الكثير من المصاعب والمشاكل الحساسة بالنسبة للمتخصصين المعاصرين ، ثم حاولوا بلا جدوى إيجاد منشأ أبيض للحضارة المصرية وأخيرا سقطوا في تناقضاتهم ، متراوحين في مصاعب المشكلة بعد أن صنعوا حيلا فكرية لا مبرر لها ، ثم ما لبثوا أن كرروا المبدأ القديم الذي يقضي بأنهم أثبتوا لكل الشعوب الموقرة المنشأ الأبيض للحضارة المصرية . إنها كامل مجموعة الأطروحات التي أفترض طرحها واحدا تلو الأخر . لأجل الموضوعية فإنني مجبر على دراسة كل وجهة نظر بشكل كامل ، بحيث يكون من العدل إشراك القاريء وتمكينه من أن يطلع بشكل مباشر على التناقضات أيّا كانت والحقائق التي يمكن أن أشير إليها .
دعونا نبدأ بأقدم واحدة من هذه الإطروحات ، تلك العائدة لشامبليون الأصغر والمبينة لأخية في الرسالة الثالثة عشر التي تتناول النقوش الصخرية البارزة على مدفن (سيسوستريس 1) الذي زاره أيضا (رينزي) . إنّ هذه النقوش الصخرية البارزة تعود إلى القرن السادس عشر (الأسرة الحاكمة الثامنة عشر) وتمثل سلالات الجنس البشري المعروف للمصريين . إنّ هذا الأثر هو أقدم حجة عرقية وافية ومتاحة . هنا ما قاله (شامبليون) : (( على يمين وادي بيبان الملوك شعرنا بالإعجاب بالنضارة المدهشة للرسومات والنقوش الدقيقة على العديد من المدافن مثلنا مثل الزائرين السابقين . لدي نسخة من هذه الرسومات بها أشخاص مصورون على النقوش الصخرية البارزة . في البداية إعتقدت ومن خلال نسخ هذه الرسومات لتلك النقوش الصخرية والتي نشرت في بريطانيا ، أنّ هذه الشعوب ذات الأعراق المختلفة والتي قادها الإله (حورس) وهو ممسك بعصا الراعي ، هي بالتأكيد أمم خضعت لحكم الفراعنة . لقد عرفت من دراسة الأساطير أنّ هذا المشهد له معنى أكثر شمولية فهو يصّور وقت الساعة الثالثة من النهار ، حينما بدأت أشعة الشمس تتحول إلى أشعة حارقة ، ملقية بالدفء على البلاد المأهولة بالسكان في نصف كرتنا الأرضية . وفقا للأسطورة نفسها فإنهم رغبوا في تمثيل سكان مصر وسكان الجزر الأجنبية . لذا فإن أمام أعيننا صورة لسلالات مختلفة لجنس بشري معروف لدى المصريين ، بينما نعلم في ذات الوقت التقسيمات الجغرافية والعرقية الكبيرة التي تأسست خلال تلك الحقبة المبكرة .
إن الرجال الذين قادهم (حورس) راعي الشعوب ينتسبون إلى أربعة عائلات بارزة . الأول الأقرب للإله لونه أحمر داكن ، صاحب جسم متناسق ، وجه حنون ، أنف محدب قليلا ، شعر بجدائل طويلة ويلبس الأبيض . تسمي الأسطورة هذا النوع ( روت – إن – ني – روم ) ، سلالة الرجال التي تكافيء التفوق أي المصريين . ليس هناك شك في الهوية العرقية للرجل الذي يليه فهو ينتمي إلى العرق الأسود وقد أشير إليه بالمصطلح العام (نحاسي) ، أما الثالث فيظهر شكلا مختلفا تماما فلون بشرته يلامس اللون الأصفر أو الأسمر وله أنف محدودب بشدة وله لحية سوداء ذات مقدمة ويرتدي جلبابا قصيرا ذو ألوان متباينة وهرلاء يطلق عليهم (نامو) . أخير هناك الأخير والذي نطلق عليه أصحاب اللون الممتليء ببشرة بيضاء ، أنف مستقيمة أو مقوسة قليلا ، عيون زرقاء ، لحية شقراء أو محمّرة ، قوام طويل ونحيف تماما ، يرتدي جلود الثيران ذات الشعر ، له أوشام متعددة على جسده ويسمى (تامهو) . لقد سعيت بحثا عن مشهد مماثل في المدافن الملكية الأخرى وكمادة واقعية وجدتها في العديد من المدافن الأخرى . لقد أقنعتني الإختلافات التي لاحظتها بشكل تام أنهم حاولوا تمثيل سكان الأركان الأربعة للأرض وفقا للمنظومة المصرية : (1) سكان مصر والتي بذاتها تشكل جزء من العالم (2) سكان أفريقيا الأصليين أي السود (3) الأسيويون (4) أخيرا الأوربيين (وأنا أخجل أن أقول ذلك لأن عرقنا في السلسلة هو الأخير والأكثر وحشية ) الذين كانوا في تلك الحقب البعيدة لا يستطيعون قطع تمثال رقيق في العالم آنذاك . في هذه الفئة يجب أن نضّمن كل الشعوب الشقراء وذوي البشرة البيضاء ، ليس في أوروبا فحسب بل في آسيا كذلك التي إنطلقوا منها.
إن هذه الطريقة من رؤية المشهد هي الأكثر دقة لأن ذات الأسماء العامة تعاود الظهور في المدافن الأخرى وعادة بنفس الترتيب . لقد وجدنا أن المصريين والأفارقة جرى تمثيلهم بنفس الطريقة ، غير أن النامو (الأسيويين) والتامهو (الأوربيين) ظهروا في أشكال مختلفة بشكل كبير . بدلا من العرب واليهود الذين أرتدوا زيا بسيطا وظهروا على مدفن واحد فإن الأسيويين الذين جرى تمثيلهم في المدافن الأخرى (مثل مدافن رمسيس الثاني ، الخ .. ) هم ثلاثة أفراد ظهروا ببشرة سمراء ، أنف محدودبة ، عيون سود ، لحية كثة ويرتدون لبسا فخما نادرا . من جانب فهم آشوريون بشكل جلي فأزياؤهم حتى التفاصيل الدقيقة تطابق تلك التي ترتديها الشخصيات البارزة التي نقشت على الأسطوانات الآشورية ومن جانب أخر فهم (ميديون) أو السكان الأوائل لجزء ما من فارس . إن ملامحهم وقسماتهم ولباسهم يماثل تلك التي وجدت في الآثار التي يطلق عليها (بيرسيبوليتان) . بهذا فإن آسيا جرى تمثيلها بشكل غير متميز عبر أي فرد كان من ساكنيها والشيء ذاته صحيح بالنسبة لأسلافنا الأوائل الخيرين (التامهو) فلباسهم المزين يختلف أحيانا فرؤوسهم قليلة أو غزيرة الشعر وموشحة بأدوات زينة مختلفة ، كما أن لباسهم الوحشي يتفاوت نوعا في الشكل ، غير أن بشرتهم البيضاء وعيونهم ولحيهم تحتفظ منفردة بميزة العرق . إن لديّ هذه السلسة الجغرافية العرقية الغريبة منسوخة ومصّورة ولم أكن أتوقع بالتأكيد عند وصولي (بيبان الملوك) أن أعثر على منحوتات تخدم كنقوش صغيرة بالنسبة للأوربيين البدائيين إذا كان لأحد الشجاعة لمحاولة ذلك . بالرغم من ذلك فإن هناك إطراء ومواساة نوعا في معرفة ذلك لأنه يجعلنا نقدر التقدم الذي تحقق لاحقا )) .
لسبب وجيه فقد أعدت تقديم هذا الملخص مثلما نشره (شامبليون – فيجاك) ، بالأحرى أخذته من (الطبعة الحديثة) للرسائل التي نشرت بواسطة إبن شامبليون الأصغر (شيرونيه – شامبليون) . الرسائل الأصلية موجهة لـ (شامبليون – فيجاك) وبالتالي فإن هذه الطبعة أكثر صحة . ما هي أهمية هذا المستند بالنسبة للمعلومات المتعلقة بالسلالة المصرية ؟ فهي بقدمها تشكل جزء هاما من الدليل الذي يفترض أن يجعل كل ما هو بالحدس غير ضروري . منذ تلك الحقبة القديمة جدا أي منذ الأسرة الحاكمة الثامنة عشر (بين إبراهيم وموسى) جرى تمثيل المصريين بشكل معتاد بطريقة لا يمكن أن تشوش عليها السلالات البيضاء والصفراء الأوربية والأسيوية والمجموعتان اللتان تنتميان إلى ذات عرقهم وهما سود الوادي المتحضرين والسود الآتين من مناطق معينة في الداخل . إن ترتيب السلالات الأربعة الذي أعد بشكل منتظم على ضوء العلاقة بالإله (حورس) تكشف عن طبيعة التسلسل الهرمي الإجتماعي . بما أن (شامبليون) أقر بذلك في النهاية ، إلا أن ذلك ألقى جانبا أي فكرة عن تصوير تقليدي يمكن أن يضع الغشاوة على مستويين بارزين ويضع (حورس) في نفس المستوى مثل الشخصيات البارزة ، بينما يجب أن يكون حقيقة في مقدمتهم جميعا .
إنه لأمر نمطي أن يجري تصوير المصريين بلون يعرف رسميا بـ (الأحمر الداكن). لقد جرى الحديث علميا على أنه لا توجد حقيقة سلالة بلون أحمر داكن . لقد إطلق المصطلح لخلق إرباك ، إذ ليس هناك رجل أسود بالمعنى الدقيق للكلمة . إن لون الزنجي يلامس في الواقع اللون الأسمر ، لكن من غير الممكن أن يطبق مصطلح وصفي دقيق عليه ، لأنه يتفاوت من إقليم إلى إقليم . لذا فقد لوحظ أنّ السود في المناطق التي بها حجر جيري أفتح لونا من أؤلئك الذين في أي مكان أخر . لذا فإنه من الصعب جدا حصر لون الزنجي في الرسم ، مما يجعل المرء يستقر على المقاربات . إنّ لون الرجلين القريبين للإله (حورس) هو تعبير عن تدرج في اللون لزنجيين . إذا أراد أحد من الــ (ولوف) أن يصّور أفرادا من الـ (بامبارا) ، (موسي) ، (يوروبا) ، (توكولور) ، (فانق) ، (مانقبيتو) ، فإنه سيحتاج إلى ألوان أكثر من تلك التي على الزنجيين اللذين في النقوش الصخرية البارزة . هل سيكون هؤلاء غير زنوجا الآن ؟ إن ذلك يوضح أن كيفية إختلاف الألوان بين الرجلين الأوليين على النقوش الصخرية البارزة يجب أن تفسر . على النقوش المصرية البارزة من غير الممكن العثور على رسم واحد يصّور المصريين في لون مختلف عن تلك الشعوب الزنجية مثل البامبارا ، أقني ، يوروبا ، موسي ، فانق ، باتوستي ، توكولور ، ..
إذا كان المصريون بيضا فإن كل الشعوب الزنجية السالف ذكرها والكثيرون الأخرون في أفريقيا هم بيض كذلك وبالتالي قد وصلنا إلى الإستنتاج المناف للعقل وهو أن السود بيض في الأساس . على هذه النقوش الصخرية البارزة المتعددة نرى أن كل أنواع السلالة البيضاء في ظل الأسرة الحاكمة الثامنة عشر ، قد وضعوا خلف السود ، على وجه التحديد (الحيوان الأشقر) لـ (غوبينيو) والنازي المتوحش ذو الوشم والذي يرتدي جلد حيوان وبدلا من أن يكون في مقدمة كل الحضارات ، فإنه ظل محجوبا عنها بشكل جوهري وشغل المرتبة الأخيرة للإنسانية . لقد كان إستنتاج (شامبليون) نموذجيا فبعد أن ذكر أن مثل هذه المنحوتات يمكن أن تخدم كنقوش صغيرة بالنسبة لتاريخ السكان الأوائل لأوروبا ، أضاف (إن كان لدى أي شخص الشجاعة لمحاولة ذلك) . أخيرا وبعد هذه التعليقات قدم رأيه عن السلالة المصرية :
(( لقد جاءت القبائل الأولى الي سكنت مصر أي وادي النيل بين شلال (أسوان) والبحر من (الحبشه) إلى (سينار) . ينتسب قدماء المصريون إلى سلالة تشبه تماما سلالة الكنوز والبرابرة والذين هم الآن سكان (بلاد النوبة) . في أقباط مصر لم نعثر على أي ملامح مميزة لسكان مصر القدماء . إن الأقباط هم نتاج للتهجين مع الأمم الأخرى التي هيمنت بنجاح على مصر . إنه من الخطأ البحث عن ملامح للسلالة القديمة )) . لقد رأينا هنا المحاولات الأولى لربط المصريين بسلالة مختلفة عن سلالة الأقباط ، مثلما أكدت ذلك ملاحظات (فولني) . إن المنشأ الجديد الذي إعتقد (شامبليون الأصغر) أنه إكتشفه ، ليس خيارا مبهجا فقد ظلت المعضلة على الوجهين هي ذاتها . إن الهرب من منشأ زنجي سيؤدي إلى منشأ أخر وبشكل متساوي وهو الزنوج (نوبيين واثيوبيين) . كحقيقة فإن المميزات الزنجية للسلالة الأثيوبية أو الحبشية قد جرى تأكيدها بشكل كاف بواسطة (هيرودتس) وليست هناك حاجة لإعادة فتح الموضوع . إن النوبيين هم الأسلاف المقبولين لمعظم الأفارقة السود ، للدرجة التي تكون فيها كلمتي (نوبي) و (زنجي) مترادفتان . أما الأثيوبيون والأقباط فهما مجموعتان زنجيتان إمتزجتا لاحقا مع عناصر بيضاء مختلفة في أقاليم متعددة . أما زنوج الدلتا فقد تهاجنوا تدريجيا مع بيض البحر الأبيض المتوسط الذين كانوا يتسللون بشكل دائم إلى مصر . لقد شكلوا ذلك الفرع القبطي المؤلف في غالبه من الأفراد الأقوياء الذين سكنوا إقليما مستنقعيا إلى حد ما . أما عن الأساس الإثيوبي الزنجي فقد جرى تطعيمه بعنصر أبيض يتألف من مهاجرين من غربي آسيا والذين سوف ندرسهم قريبا . لقد أنتج هذا المزيج في منطقة سهلية نموذجا أكثر رياضية من حيث البنية . بالرغم من هذا الهجين المستمر والقديم جدا فإن الملامح الزنجية للسلالة المصرية الأولى لم تختف بعد ، فلون بشرتهم لا يزال أسودا بشكل جلي ومختلف تماما عن تلك السلالة الممزوجة بـ (50%) من الدم الأبيض . في معظم الحالات فإن اللون لا يختلف عن ذلك العائد للأفارقة السود الأخرين . عليه يمكننا أن نفهم لماذا يحمل الأقباط وخاصة الإثيوبيين ملامح تختلف قليلا عن تلك التي للسود الخالين من أي أمتزاج مع سلالات بيضاء . إنه يحدث أحيانا أن تكون شعورهم أقل تجعدا . مع أنهم ظلوا بارزين بشكل أساسي ، إلا أنه بذل جهدا على تقديمهم على أنهم بيضا مزيفين ، إستنادا على ملامحهم الدقيقة نوعا . إنهم بيض مزيفون حينما يكونوا معاصرينا وحينما يمنعنا واقعهم العرقي من إعتبارهم بيضا حقيقيين ، غير أن هياكل أسلافهم التي وجدت في المدافن تظهرهم بيضا بالكامل وفقا لمقاييس الأنثربولوجيا . بفضل ما سمي بمقاييس الأنثربولوجيا فإننا سوف نرى أنه لم يعد بالإمكان تمييز هيكل الإثيوبي الذي هو زنجي عن هيكل الألماني .على ضوء الفجوة التي تفصل هاتين السلالتين فإننا ندرك كم هذه المقاييس مربكة وغير ضرورية . إن رأي (شامبليون) عن السلالة المصرية قد سجله في سيرة أعدها لباشا مصر سلّمها له في عام 1829 .
الآن دعونا نرى عما إذا كان بحث أخ (شامبليون الأصغر) أب علم الآثار المصرية قد سلط أي ضوء على الموضوع أم لا . هنا كيفية تقديمه للموضوع : (( إن الرأي القائل بأن السكان القدماء لمصر ينتسبون إلى العرق الأفريقي الزنجي هو خطأ تم قبوله طويلا على أنه الحقيقة . منذ عصر النهضة فإن الرحالة في الشرق الذين كانوا قادرين بالكاد على التقييم الكامل للأفكار المقدمة من الآثار المصرية في هذه المسألة الهامة ، ساعدوا على نشر هذه الفكرة الزائفة فيما نجح الجغرافيون في إعادة إنتاجها حتى في أيامنا . إن هناك جهة أعلنت أنها منحازة لهذه الرؤية وروّجت للخطأ . لقد كان ذلك تأثير ما أحتفى به (فولني) في مؤلفاته المنشورة عن ملاحظاته عن السلالات المختلفة للبشر في مصر . في كتابه (رحلة) الموجود في كل المكتبات ، أورد أن الأقباط ينحدرون من سلالة المصريين القدماء ، ذلك أن الأقباط لهم وجه وأعين منتفخة ، أنف فطساء ، شفاه غليظة مثل الخلاسي وأنهم يشبهون أبو الهول الذي في الإهرامات ذو الرأس الزنجي بشكل مميز وتوصل إلى أنّ المصريين هم زنوج حقيقيون من نفس النوع الذي ينتمي إليه كل الأفارقة المحليون . لدعم هذا الرأي فإنه إستدعي رأي (هيرودتس) المتعلق بـ (الكوليخسيين) ، ذاكرا أن المصريين لهم بشرة سوداء وشعر أصوف ، غير أن هاتين الصفتين الجسدتين لا تكفي لتمييز العرق الزنجي ، كما أن إستنتاج (فولني) بالنسبة للمنشأ الزنجي للحضارة المصرية ، مقحم بشكل واضح وغير مقبول )) .
بعد التعبير عن آسفه بشكل غير مباشر عن وجود كتاب (فولني) في كل المكتبات ، يتقدم شامبليون- فيجاك بما يراه حجة حاسمة لدحض فرضية ذلك الباحث وكل أسلافه من أنّ البشرة السوداء والشعر الأصوف (لا يكفيان لتمييز الجنس العرقي) . إنه يمكن على حساب هذه التغييرات في التعريفات الأساسية أن تكون السلالة المصرية بيضاء . عجبا ! إنه لم يعد هناك ما يكفي لأن تكون أسودا من الرأس إلى القدم وأن يكون لديك شعرا أصوفا لكي تكون زنجيا ! يمكن للمرء أن يتخيل نفسه في عالم حيث القوانين الطبيعية إنقلبت رأسا على عقب . على أي حال فإن المرء يجد نفسه متنحيا بعيدا عن العقل الديكارتي التحليلي . مهما يكن فإن هذه هي تعريفات وتبديلات المعلومات الأولية التي أصبحت أركان الأساس التي إرتكز عليها علم الآثار المصرية .
إن ظهور علم الآثار المصرية من خلال تفسير المعرفة العلمية قد تميز بالتزويرات المتعمدة وغير المتقنة التي أشرنا إليها أخيرا . إن ذلك هو السبب الذي جعل علماء الآثار المصرية يتجنبون بشكل حذر مناقشة أصل السلالة المصرية . للتعامل مع هذه المسألة اليوم فإننا نجد أنفسنا مجبرين على الكشف عن نصوص قديمة لمؤلفين كانوا مشهورين ذات مرة ثم أصبحوا مجهولين لاحقا . إن تغييرات (شامبليون) تظهر كيف يكون من الصعب إثبات نقيض الواقع فيما لا يزال غامضا . حيثما نتوقع دحضا موضوعيا ومنطقيا ، فإننا نواجه الكلمة النموذجية (مرفوض) والتي هي بالكاد كلمة مترادفة مع إثبات . يواصل (شامبليون – فيجاك) في موضوعه قائلا :
((لقد أدرك اليوم أن سكان أفريقيا ينتمون إلى ثلاثة سلالات مختلفة عن بعضها بشكل تام (1) زنوج حقيقيون ويسكنون وسط وغرب أفريقيا (2) كافرز ويعيشون على الساحل الشرقي ، لهم زاوية أقل إنفراجا في الوجه من السود ، أنفهم مرتفعة ، غير أن شفاههم غليظة وشعرهم أصوف . (3) المور الذين يشابهون في القوام والملامح والشعر أمم أوروبا وغربي آسيا وتختلف فقط في لون البشرة الذي أكتسب السمرة بفعل المناخ . إن قدماء المصريين ينتمون إلى هذه السلالة الأخيرة أي السلالة البيضاء . لكي نقتنع بذلك فإننا في حاجة فقط لكي نفحص الأشكال البشرية التي تمثل المصريين على الآثار وفوق كذلك عدد كبير من المومياءت التي فتحت . بإستثناء لون البشرة التي إسوّدت بفعل المناخ الحار فإنهم نفس الرجال الذين في أوروبا وغربي آسيا . إن الشعر المجعد الأصوف هو الصفة الحقيقية للسلالة الزنجية ، بينما للمصريين شعر طويل يماثل ذلك الذي للسلالة البيضاء في الغرب )) .
دعنا نحلل إفادات (شامبليون – فيجاك) نقطة تلو نقطة . إن كلمة (كافر) لا تشكل سلالة – بعكس رأيه – فالكلمة أصلها عربي وتعني (وثني) وهي المقابل لمسلم . حينما دخل العرب أفريقيا عبر زنزبار فإن هذه الكلمة أطلقت على أؤلئك السكان الذين وجدوهم يمارسون ديانة غير ديانتهم . أما بالنسبة للمور فإنهم ينحدرون من الغزاة الإسلاميين السابقين الذين بدأوا حملتهم من اليمن ، قهروا مصر ، شمال أفريقيا وأسبانيا فيما بين القرنين السابع عشر والخامس عشر ومن إسبانيا عادوا مرة أخرى إلى أفريقيا . بالتالي فإن المور هم بالأساس عرب مسلمون حيث أن وجودهم في أفريقيا حديث تماما . إن هناك العديد من المخطوطات التي تحتفظ بها عائلات المور الرئيسية في موريتانيا اليوم ، مخطوطات تظهر بدقة تسلسل أنسابهم منذ أن غادروا اليمن كإثبات على أصلهم . عليه فإن المور هم فرع من أؤلئك الذين يطلق عليهم (ساميون) وما سيقال عن الساميين لاحقا في هذا الكتاب سوف يبدد أي إحتمال لإمكانية أن يكونوا صنّاع الحضارة المصرية ، كما أن المور مثل البرابرة لهم عداء مع النحت ، بينما ألحقت الثقافة المصرية أهمية عظيمة بهذا المظهر الفني . في نفس الفصل سوف يتم التشديد على التمازج العرقي أكثر من التشديد على المناخ واللون الذي يفترض أن ينسبوا له . علاوة على ذلك وعلى ضوء المومياءات أو الأحياء فإنه لا توجد إمكانية للمقارنة بين لون بشرة المور - حتى وإن تلونت باللون الأسمر بفعل الشمس – والبشرة الزنجية السوداء للمصريين .
لإقناعنا بفكرته دعانا (شامبليون) إلى فحص الأشكال البشرية التي تمثل المصريين على الآثار . إن حقيقة الفن المصري بكامله يناقض ما ذهب إليه (شامبليون) . لقد أولى القليل من الإهتمام للملاحظات النموذجية لـ (فولني) عن أبو الهول ، مع أنه أشار إليها فقط . بناء على نفس هذه التوضيحات التي أشار إليها ، يمكننا القول وأنه عكس ما تحدث به (فيجاك) فإنه ومنذ مينا وحتى نهاية الأمبراطورية المصرية ومن عامة الشعب حتى فرعون ، مرورا بوجهاء البلاط وكبار المسئولين ، فإنه من غير الممكن أن تعثر سوى على زنوج من نفس نوع سكان أفريقيا المحليين . إن الصور التي في هذا الكتاب تقدم سلسلة من الآثار التي تمثل الطبقات الإجتماعية المختلفة للسكان المصريين بما في ذلك الفراعنة وتقودنا تلك الصور بشكل إضطراري إلى ملاحظة أن الفن المصري كان في الغالب أكثر زنجية من فن زنجي أصيل . عند فحص هذه الصور ومقارنتها واحدة بأخرى فإننا نتعجب كيف إستطاعت هذه الصور أن تستلهم فكرة السلالة المصرية البيضاء .
أخيرا وبعد أن ذكر أن البشرة السوداء والشعر الأصوف لا يكفيان لتمييز السلالة الزنجية ، عاد (شامبليون – فيجاك) ليناقض نفسه لاحقا في السطر (36) بأن كتب (أنّ الشعر المجعد الأصوف هو الصفة الحقيقية للسلالة الزنجية) بل مضى إلى الأبعد حينما قال أن المصريين لهم شعور طويلة وبناء على ذلك فهم ينتسبون إلى العرق الأبيض . إنه يبدو من النص أن المصريين كانوا بيضا ببشرة سوداء وشعر طويل . مع أننا قد لا نكون مدركين لوجود هؤلاء البيض ، فإننا نحاول أن نفهم كيف توصل المؤلف إلى هذا الإستنتاج . إن ما قيل عن أن الأثيوبيين والأقباط يظهر أنّ شعورهم ربما كانت أقل تجعيدا من تلك التي للزنوج . علاوة على ذلك فإن السلالة السوداء ، السوداء بالكامل ذات الشعر الطويل موجودة فهناك (الدارفيدي) وهم يعتبرون زنوجا في الهند وبيضا في أفريقيا . على الآثار جرى تصوير المصريين بتمشيطات شعر صناعية تماثل تلك التي تظهر في أي مكان في أفريقيا السوداء . إن علينا أن نرجع إلى هذه في تحليل (نارمير) . لقد إختتم المؤلف حديثه بوصف الشعر المصري بأنه مشابه لشعر البيض الغربيين . إننا لا نقبل هذه الملاحظة حتى إذا كان شعر المصريين أقل مشابهة للصوف من ذلك الذي للسود الأخرين ، فإن ذلك يستبعد أي مقارنة محتملة بين شعر السود الكثيف والأسود مع شعر الغربيين الرقيق والفاتح . إنه من المثير للفضول أن نقرأ عن مصريين طويلي الشعر ، حينما نعلم أن (هيرودتس) قد وصف شعرهم بأنه مشابه للصوف . علاوة على ذلك فإنه في فترة الأسرة الحاكمة الحادية عشر كان السود ، البيض وذوي البشرة الصفراء يعيشون في (طيبه) ، مثلما يعيش الأجانب اليوم في باريس .
حينما كان إنسان (طيبه) يرغب في الحصول على نعش مترف لموميائه ، كان يجّوف جذع الشجرة ويقطعها على شكل إنسان مع غطاء يمثل مقدمة الجثة . كان الوجه يخفى بلون أصفر ، أبيض أو أسود . بالنسبة لإختيار التلوين يظهر أنه في ظل الأسرة الحاكمة الحادية عشر في (طيبه) كان الرجال الصفر ، البيض والسود مقبولين كمواطنين ومعترف بهم في مدينة الموتى المصرية . إننا نتعجب إذا عن سبب بقاء المومياءات الطويلة الشعر فقط ، فيما لم تظهر أو تذكر المومياءات الزنجية التي إستشهد بها (فونتين) . ماذا جرى لها ؟ إنّ إفادات (هيرودتس) لا تدع مجالا للشك عن وجودها . هل أعتبرت أنواعا أجنبية لا صلة لها بتاريخ مصر ؟ هل دمرت أو خبئت في تعريشات المتاحف ؟ إن ذلك أمر محزن تماما . يواصل (شامبليون – فيجاك) حديثه قائلا : (( لقد بحث دكتور (لاري) هذه المسألة في مصر وفحص عدد كبير من المومياءات ودرس هياكلها وتعرف على الصفات الرئيسية وحاول تحديد هوياتها في السلالات المختلفة التي كانت تعيش في مصر ونجح في ذلك . لقد بدأ له أن الجميع قد إندمج في الإثيوبيين عدا الجنس الأسود . إنّ للأثيوبيين عيون واسعة ، نظرة عذبة ، .... ، عظام خد بارزة وتشكل الخدود مثلثا منتظما مع الزوايا البارزة لعظام الفك والفم ، الشفاه غليظة لكن من دون إرتداد كما عند السود ، الأسنان دقيقة لكنها ناتئة قليلا ، أخيرا البشرة بلون مشابه للون النحاس . إن مثل هؤلاء الإثيوبيين قد جرى رصدهم من قبل دكتور (لاري) وعرفوا عموما كبربر أو برابرة وهم اليوم سكان بلاد النوبة )) .
أضاف (شامبليون) بأن (فريدريك كيلايود) الذي شاهد البربر وصفهم بأنهم ( كادحين ، متعقلين ، ذو دعابة جافة .. شعورهم نصف مجعدة ، قصيرة ومجعدة ، أو مجدولة مثل قدماء المصريين ومدهونة قليلا ). مرة أخرى فإن هذا الوصف يدوي بما هو متعارف عليه ، فالشفاه الغليظة ، الأسنان الناتئة قليلا – بمصطلح أوضح بروز الفكين – الشعر شبه المجعد ، البشرة النحاسية ، هي صفات أساسية للعرق الزنجي . إنه لأمر مثير للإهتمام أن يتحدث (شامبليون – فيجاك ) عن بشرة الأثيوبيين كونها (نحاسية اللون فقط) ، مع أنه يشير في صفحتين لاحقتين في نفس الفصل إلى الكثير من الفوارق الدقيقة في لون الزنوج :
(( لقد أدخلت الحروب الطويلة مصر في إحتكاك مع الداخل الأفريقي وبالتالي يستطيع المرء التمييز بين الأنواع العديدة للسود على الآثار المصرية ، المختلفين فيما بينهم من حيث الملامح الرئيسية والتي أوردها الرحالة المعاصرون كإختلافات سواء أكان ذلك فيما يتعلق بالبشرة التي تجعل الزنوج سودا أو نحاسيي اللون أو الملامح التي ليست أقل نموذجية)) . إن هذا التناقض الجديد من نفس القلم تؤكد ما ذهبنا إليه بشأن الرجلين الجالسين بالقرب من الإله حورس ، بالتحديد المصري والزنجي . هذين الرجلين ينتميان إلى نفس السلالة فالإختلاف الذي بينهما في اللون ليس أكبر من ذلك الذي بين (البامبارا) و (الولوف) اللذين كليهما زنجي . إن ما يسمى بـ (اللون الأحمر الداكن) للأول (اللون النحاسي المجرد) للأثيوبي و (اللون النحاسي) للزنجي هما لون واحد وذات الشيء . نلاحظ أن وصف المؤلف توانى عن التفاصيل الصغيرة مثل (نظرة عذبة) وهكذا دواليك. إن الإرتباك حول مصطلح (بربر) يجب الإشارة إليه فهي كلمة أستخدمت بشكل غير سليم لسكان وادي النيل الذين لا يجمعهم شيئ مع البربر والطوارق ، حيث لا بربر في مصر . في المقابل فإننا نعرف بأن شمال أفريقيا يطلق عليه دول البرابرة وهذه المنطقة هي الموطن الأصلي الوحيد للبرابرة . بناء على ذلك فإن المصطلح غير صحيح التطبيق على السكان الأخرين . إنّ جذور هذه الكلمة التي أستخدمت خلال العصر القديم ، ربما تكون زنجية المنشأ أكثر من كونها هندية - أوربية . في الواقع فإنه تكرار صوتي للجذر (بر) . إن هذا النوع من التكثيف في الجذر هو أمر شائع في اللغات الأفريقية خاصة المصرية .
علاوة على ذلك فإن كلمة (بر) تعني لدى (الولوف) التحدث بسرعة و(بربر) يراد بها الإشارة إلى شعب يتحدث بلغة غير مفهومة وبالتالي فإنهم شعب أجنبي . لدى (الولوف) فإن الصفة التي تشير إلى الجنسية ، تتشكل بمضاعفة الجذر مثلا (جولوف جولوف) سكان (جولوف) . وفقا لرسم (شامبليون الأصغر) وبإعادة طرح النقوش الصخرية البارزة لبيبان الملوك فإن (شامبليون – فيجاك) لم يحترم ألوان الأصل . لقد ألقى بتدرج اللون بالكامل على جسم الزنجي لتذكيرنا بلونه ، إلا أنه تجنب أن يفعل ذات الشيء مع المصري الذي تركه بلا لون . ربما كانت تلك طريقة لتبييض الأخير غير أن ذلك لا ينسجم مع المستند . لقد إستخدم (شيروبيني) رفيق شامبليون في الرحلة نفس المستند المتعلق ببيبان الملوك في تمييز السلالة المصرية . لقد شدد قبل ذلك على أقدمية إثيوبيا على مصر وأستشهد برأي مجمع عليه من القدماء وهو أن مصر مجرد مستعمرة إثيوبية أي مروي السودانية. على إمتداد التاريخ كان يعتقد بشكل متساو أن السودان المروي هو مولد الإنسانية :
(( إن السلالة البشرية يجب أن تحتسب وجودها هناك كأمر تلقائي ، كونها ولدت في المناطق العليا من أثيوبيا حيث يتواجد مصدرين من مصادر الحياة هما الحرارة والرطوبة . في هذه المنطقة كذلك تكشفت الومضات الأولى للتاريخ عن منشأ المجتمعات والموطن الأولي للحضارات . في العصر القديم الأول وقبل الحسابات المألوفة للتاريخ ظهر تنظيم إجتماعي كامل التركيب بديانته وقوانينه ومؤسساته . يفاخر الأثيوبيون بأنهم أول من أسس للعبودية الربوبية وأول من إستخدم القرابين وربما كانوا أول من إضاء العالم بمشعل العلم والفنون . إلى هذا الشعب يجب أن ننسب منشأ المنحوتات ، إستخدام الرموز المكتوبة ، بإختصار بداية كل التطورات التي صنعت حضارة متقدمة . إنهم يتباهون بالسبق على الشعوب الأخرى في الأرض وبالتفوق الفعلي أو النسبي لحضارتهم ، بينما كانت معظم المجتمعات لا تزال في طفولتها ويبدو أن لديهم مايبرر إدعاءتهم . لا يوجد أي دليل يمكن أن ينسب إلى مصدر أخر يتحدث عن بدايات العائلة الأثيوبية . في المقابل فإن مجمل الحقائق الهامة مالت إلى تسميتها إنها ذات منشأ محلي بمعني الكلمة في تاريخ مبكر . لقد أعتبرت أثيوبيا بلد لوحده . من هذا المنشأ الكثير أو القليل الشبه بالجنة يبدو أنّ بدايات الحياة قد إنبثقت من هناك حيث تواجد البشر . بإستثناء بعض التفاصيل التي أمدنا بها أب التاريخ عن هؤلاء الأثيوبيين الذين يعرفون بالنباتيين ، فإن هناك فكرة غامضة ما من أن أثيوبيا أنجبت رجالا تفوقوا على بقية البشر في الطول ، الحسن وطول العمر . برغم الإدراك بوجود أمتين محليتيين عظيمتين في أفريقيا وهما الليبية والأثيوبية ، فإن الأمة الأخيرة تضم شعوبا جنوبية في معظمها من العرق الأسود وهم بالتالي مميزون عن الليبيين الذين يسكنون شمال أفريقيا الذين هم أقل سمرة بفعل الشمس . أنّ هذه المعلومات هي التي أوردها القدماء . إنه لمن المعقول الإفتراض بأنه لا يمكننا أن نعثر في أي مكان أخر في الأرض على حضارة لها من التقدم ما يبدو أكثر يقينا من تلك ولها دلائل قاطعة من الأسبقية . إنسجاما مع الآثار الحقيقية فإن الكتابات القديمة الفلسفية البحثية تشهد بشكل محقق بهذه الأسبقية . في تاريخ المجتمعات البدائية ربما لا توجد حقيقة تجد دعما بشكل كلي أو بإجماع قاطع )) .
مرة أخرى فإن أحد المعاصرين يذكرنا بأن القدماء ، العلماء والفلاسفة الذين نقلوا حضارة اليوم إلينا ، من هيرودتس إلى تيودوروس ، من اليونان إلى روما قد أقروا بالإجماع بأنهم إقتبسوا تلك الحضارة من السود القاطنين على ضفاف النيل : الأثيوبيين أو المصريين . إن هذا النص يشير بوضوح إلى أن القدماء لم يشّكوا أبدا في دور السود كمبتدئين للحضارة . مع أن (شيروبيني) يفسر الحقائق كما يرغب ، فإنه وإستنادا على النقوش الصخرية البارزة لبيبان الملوك لا يقدم بعد شامبليون الأصغر وشامبليون – فيجاك ، أي عنصر جديد يتعلق بالسلالة المصرية عدا تفسير خاطيء لبشرتهم ، فهو يورد بأنه إذا كان (الرجل مكافيء التفوق) قد صّور بلون أسمر محمّر (!) فمن الأحرى أن يكون مميزا عن باقي البشر وبالتالي فهو خيار تقليدي بمعنى الكلمة : (( في هذا التصنيف من الرجال القدماء الذين هم أنفسهم تركوه لنا أن السكان الأفارقة القاطنين وادي النيل ، يشكلون لوحدهم واحدا من المجموعات الأربعة للبشرية والتي تحتل المرتبة الأولى بجانب الرب . لقد لوحظ هذا الترتيب في مواضع أخرى عديدة ولم يظهر بمحض الصدفة . لجعل المسافة التي تفصلهم عن باقي الرجال غير ممكن إدراكها فإنهم نسبوا إلى أنفسهم مثلما نسبوا إلى الرب التجسيد في شكل بشر وربما كان اللون الأسمر المحمّر فيه شيء من المبالغة أو ربما كان تقليديا نوعا ما ، مما لا يدع مجالا للشك عن أصالة سلالتهم . علاوة على ذلك فقد ظهروا على آثار حضارتهم القديمة بملامح خاصة تكشف عن الأصل الأفريقي بشكل قاطع)) .
إن اللون الأسمر المحمّر الذي يسميه شامبليون (أحمرا داكنا) والذي هو ببساطة (لون زنجي) لا يمكن أن يكون لونا تقليديا كما رأى (شيروبيني) ، فإن كان كذلك فإنه سيكون اللون التقليدي الوحيد في تلك النقوش الصخرية البارزة ، بينما تكون كل الألوان الأخرى طبيعية . ليس هناك شك في حقيقة الثياب البيضاء التي يرتديها الرجل الأول ، أو البشرة التي تلامس اللون الأصفر أو المسمّرة للرجل الثالث ، أو البشرة البيضاء ذات الدرجة اللونية الرقيقة ، اللحية الشقراء وعيون الرجل الرابع . من بين الكثير من الألوان الطبيعية لماذا يجب أن يكون هناك لون تقليدي واحد ؟ وفقا لـ (شيروبيني) : (( حمل المصريون تصنيفهم أو بشكل أكثر دقة فخرهم العرقي للدرجة التي أرسوا فيه تمييزا محددا بين أنفسهم وبين جيرانهم الأفارقة المحليين مثل السكان الزنوج الذين كانوا ينفرون أن يختلطوا معهم ووضعهم في فئة منفصلة )) . لقد مضى المصريون إلى الأبعد وصّوروا إلههم بلون زنجي ، أي بلون هيئتهم الأسود الفاحم . بالتالي فإن فكرة أي شيء هو تقليدي سترفض ببساطة وبشكل تام . هكذا بعد شامبليون – فيجاك أتى (شيروبيني) وأطلع على نفس وثيقة بيبان الملوك عبر ضوء وامض . في هذا السياق يمكننا أن نكرر ما قلناه سابقا من أنه وبالإبتعاد عن الدليل الذي يفيد بزنجية المنشأ ، فإن المتخصصين يقعون في إحتمالات بعيدة الحدوث وتناقضات تفضي إلى نهايات مسدودة . إن هذا العمى وحده يمكن أن يفسر كيف أن (شيروبيني) وجد من الأنسب أن يلجأ إلى التمثيل التقليدي الذي يتناقض مع رأيه الخاص عن المصريين الذين وجدوه مرفوضا . يستدعي المؤلف من جهته النقوش الصخرية البارزة لمعبد أبي سمبل (النوبة السفلى) حيث صّور السجناء المعتقلين بواسطة (سيسوستريس) بعد حملة نحو الجنوب . لقد أعاد (شيروبيني) طرح هذه المعلومات لإثبات أنّ المصريين والسود ينتمون إلى سلالاتين مختلفتين :
(( شاهدنا الملك سيسوستريس عائدا من حملة ضد هؤلاء الجنوبيين ، هناك العديد من الأسرى يتقدمون مركبته . منح الملك الآلهة المحلية مجموعتين من السجناء الذين ينتمون بشكل جلي إلى هذه القبائل المتوحشة وهو عطاء مخصص لحماة الحضارة الأقوياء الذين تبسموا أمام عقوبة أعدائه . كان هؤلاء الرجال مقيدين مع بعضهم ومجردين من ملابسهم تقريبا عدا جلد نمر يغطي عوراتهم ، مميزين بلونهم ، بعضهم أسود بالكامل وأخرين بلون أسمر داكن . هناك نوع يتميز بوجه ذو زاوية طويلة ، قمة الرأس مسطحة ، فيه مزيج من الملامح الخشنة وجسم ضئيل عموما ، هو من سلالة تقبع في أدنى درجات السلم البشري (الشكل 29) . إن التكشيرات الدميمة والتعرجات التي تقبض على وجوه وأطراف هؤلاء الرجال تكشف عن شيم متوحشة ، كما أنّ غرابة تلك السلالة التي يبدو فيها الحس الأخلاقي غائبا ، يميل إلى وضعها في مستوى أكثر أو أقل توسطا بين الإنسان والبهيمة . إن كل هذه الحقائق تبدو أكثر دهشة عند مقارنتها بالموقف النبيل والجاد للمصريين الذين سبوهم . إنّ هذا التباين المؤثر يثبت بشكل كاف أن القدماء الذين سكنوا على ضفاف النيل قد إبتعدوا بعيدا عن أنواع سكان جنوب أفريقيا مثلما عن الشعوب الآسيوية . إن ذلك يدحض النظريات التي حاولت حتى اليوم تثبيت منشأ زنجي لها )) .
متجاهلين نعوته الإزدرائية ، دعونا نرى كيف وصف (شيروبيني) إختلاف السجناء عرقيا عن المصريين . إن روايته لا تحتوي على مصطلح علمي واحد يعمل على جذب إنتباهنا . في المقابل فإن الطبيعة المتطرفة للإهانات التي شكلت الجزء الأكبر من وصفه - الذي كتب بواسطة ممثل الشعب الذي أعتبر إحساسه بالتجانس مزية وطنية – يشير إلى غيظ شخص غير قادر على تحديد ما يرغب في إثباته . لقد مضى بعيدا حتى ينسى الترتيب الموضوعي الذي أتبع في النقوش الصخرية البارزة لبيبان الملوك التي مكث فيها طويلا . في الواقع إذا كانت السلالة السوداء ( في أدنى درجات السلم البشري) حتى وإن وقفت أمام عبارة غوبينيو (حيوان أشقر) على تلك النقوش الصخرية في ترتيب يلاحظ بشكل ثابت في كل الآثار ، عندها عند أي درجة يوضع الأخير ؟ إننا نعيد هنا طرح التخطيط الذي ناقشه (شيروبيني) . كيف يمكن للمرء أن يتعرف من الوجوه على أي دليل للإنحطاط الأخلاقي ؟ كيف تختلف تلك الملامح عن ملامح المصريين ؟ إن (شيروبيني) نفسه يخبرنا عن أن البشرة تكون أحيانا (سمراء داكنة) ، بكلمات أخرى أنه نفس اللون الأسمر المحمّر العائد للمصريين على الآثار . بشكل واضح فإن السمة الوحيدة الصحيحة التي إستشهد بها ، هي سمة مشتركة للسلالتين . إن لون سجناء أبو سمبل هؤلاء يدحض الزعم بأن المصريين لم يواجهوا الزنوج حتى الأسرة الحاكمة الثامنة عشر وقد صّوروا بلون مختلف عن لونهم . إن هذا الزعم مستمد من الخيال وليس من دليل وثائقي . أليست هذه الأجساد رياضية أكثر من كونها ضئيلة ؟ إن (التعرجات) و (الإنقباضات) التي على وجه الأشخاص الذين في المقدمة ، الإستكانة المترفعة لاؤلئك الذين في الخلف ، توحي بمفهوم عال للكرامة أكثر مما تشي بإنحطاط أخلاقي للمشاهد الذي يفسرها بشكل موضوعي .
إنه لم يحدث أن أشير إلى أن (سيسوستريس) والفراعنة عموما قاتلوا سكان جنوبي أثيوبيا السود لكونهم لا ينتمون لنفس العرق . إنه لأمر متعادل القول بما أنّ القيصر شن حملاته في بلاد الغال فإن الغاليين والرومان لم يكونوا منتسبين إلى ذات العرق الأبيض ، أو القول بأنه إذا كان الرومان بيضا فيجب أن يكون الغاليون صفرا أو سودا . إن الزنوج الذين عاشوا في الأجزاء الداخلية من أفريقيا في ذلك الوقت كانوا مولعين بالحرب وكانوا غالبا ما يغيرون على الإقليم المصري ( مقارنة مع قسمنا عن ستيلا و فيلاي) . إن الإحتفاء بـ (سيسوستريس) الذي ظهر على النقوش الصخرية بأبي سمبل ، يتناسب مع سياق القمع . علاوة على ذلك فإن هذه الحملة حدثت أثناء عصر الإمبراطورية الرومانية (الأسرة الحاكمة الثامنة عشر) . بالتالي فإنهم أبناء سام إخوانهم الجنوبيين ( أبناء كوش الوقحين) . غير أن أكثر من مقتهم المصريون هم الرعاة الآسيويين من كل الأجناس من الساميين إلى الهنود الأوربيين. وفقا لـ (مانيثو) فقد كانوا يسمونهم (الأسيويين الحقيرين) وقد جاء إسم (الهيكسوس) من المقطعين : (هيك) ومعناها ملك في اللغة المقدسة و (سوس) ومعناها راعي في اللغة العامة ويشار إليهم بالغزاة . كذلك يسميهم المصريون : (الملعونين) ، (النهّابين) ، (اللصوص) .... ، كما يسمون السيكيثيون (طاعون سكيتو) – مقارنة مع (شيروبيني) صفحة 34 . إن التجسيمات الصخرية التي تركها المصريون والتي جرى الإحتفاء فيها بالحملات الفرعونية ضد تلك الآفات المتحركة من آسيا ، تصّور شخصيات بارزة يظهر فيها تباين عرقيتها مع المصريين عند النظر إليها من أول وهلة وبدون أي شك محتمل . لجعل الشخصية السامية والآرية الأجنبية أكثر ظهورا فقد أعدنا تقديم الأسرى الآسيويين والأوربيين المنقوشين على الصخور في سيناء وفي معبد مدينة حبو . إن التباين مع تشابه الملامح أمر جدير بالملاحظة بين المصريين وسجناء أبي سمبل .
بالرغم من مجهوداته فإن (شيروبيني) فشل بوضوح في تدمير الفرضية القائلة بزنجية نشأة المصريين . من خلال عدم تماسك وضعف الحجج التي إعتبرها ساحقة فإنه أكد على زنجية المنشأ بأفضل من أي شخص أخر . في (ليس إيجيبتس) وهو كتاب نشر حوالي عام 1880 هاجم (ماريوس فونتين) نفس الإشكالية : (( بما أن المصريين يدهنون أنفسهم دائما باللون الأحمر على آثارهم ، فإن الموالين للإقليم الجنوبي كان عليهم أن يشيروا إلى خصوصياتهم المدهشة ، ربما لحل المشكلة الجغرافية العرقية . اليوم وبالقرب من أعالي النيل ومن بين (الفولبي) من هم بشرتهم صفراء تماما ويعتبرهم المعاصرون ينتمون إلى سلالة نقية ، يحملون لونا أحمر نوعا . البشاريون لهم بالضبط ذات الدرجة من اللون الأحمر (بلون الآجر) المستخدم في الآثار المصرية. بالنسبة لعلماء الجغرافيا العرقية فإن هؤلاء (الرجال الحمر) ربما كانوا أثيوبيون تحّوروا بفعل الزمن والمناخ ، أو ربما كانوا زنوجا قطعوا نصف الطريق في التطور من اللون الأسود إلى الأبيض . لقد لوحظ في المناطق ذات الحجر الجيري أنّ الزنوج أقل سوادا من الزنوج الذين في المناطق الجرانيتية أو ذات الصخر الجوفي . لقد جرى الإعتقاد بأن اللون يتغير مع الفصول . بالتالي فإن النوبيين كانوا سودا سابقا ولكن فقط في لون البشرة ، بينما ظلت بنيتهم العظمية زنجية تماما . إنّ الزنوج الذين جسّدوا على الرسوم الفرعونية التي كان يخطها نقاشون يسمون (نهاسو أو نهاسيو) في اللغة الهيروغلوفية ، لم يكونوا على صلة بالإثيوبيين ، الشعب الأول الذي هبط مصر . هل أضعف الأخيرون إذا الزنوج النوبيين ؟ يقول سفر (ليسبس) عن تناسبات الجسد المصري المثالي أن له أذرع قصيرة وهو شبيه الزنجي أو زنجي . من وجهة نظر أنثربولوجية فإن المصريين يأتون بعد البولينين ، السامويدز ، الأوربيين ويليهم مباشرة الزنوج الأفارقة والتسمانيين . بجانب ذلك فهناك ميل علمي من أنه بعد إستبعاد التأثيرات الأجنبية من البحر الأبيض المتوسط إلى الكاب ومن الأطلنطي إلى المحيط الهندي ، فإنه لا شييء في أفريقيا غير الزنوج وأشباه الزنوج ذوي الألوان المختلفة . لقد كان قدماء المصريون زنوجا لأقصى درجة )) .[/rtl]
عدل سابقا من قبل salih sam في السبت 31 مايو 2014 - 17:31 عدل 1 مرات
salih sam
لـــواء
الـبلد : المهنة : College studentالمزاج : اللهم سلم السودان و اهل السودان التسجيل : 09/05/2011عدد المساهمات : 7924معدل النشاط : 6296التقييم : 271الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 17:28
[rtl]الأصل الأفريقي للحضـارة : خرافـة أم حقيقـة 4 ....[/rtl] [rtl] إن رؤية (فونتين) التي لا تحتاج إلى تعليق تؤكد مرة أخرى إستحالة تجنب واقع مصر الزنجية ، إذا ما أراد شخص قبول الحقائق . بعد أن قيّد نفسه بالمقاييس الموضوعية ، توصل (ليبسيوس) إلى إستنتاج منهجي هام وهو أن المصري المثالي زنجي . بمعنى أن هيكله العظمي زنجي وهذا هو السبب الذي حدا بعلماء الأنثربولوجيا بالحديث قليلا عن البنية العظمية للإنسان المصري . يناقش (فونتين ) الزعم القائل بأنّ مصر ربما تحضّرت بفعل البرابرة والليبيين القادمين من أوروبا عبر الغرب :
(( إذا ظهر أن الحضارة إنتقلت من الشمال إلى الجنوب ، من البحر المتوسط إلى أثيوبيا فإنه ليس من الضروري إقتفاء القول بأن الحضارة آسيوية فهي لا تزال أفريقية ، عدا أنها جاءت من الغرب بدلا من الجنوب . في هذه الحالة فإن برابرة شمال أفريقيا هم الذين (حضّروا) مصر . إن عددا ضخما من برابرة اليوم لهم بنية عظمية مصرية بشكل أساسي وربما كان قدماء البربر سمرا . إننا يمكن أن ننسب وصفهم للـ (تامهو) أي الليبيين العائدين للأسرة الحاكمة الثامنة عشر ذوي ( الوجه الشاحب ، الأبيض أو الخمري وعيون زرقاء ) من واقع تأثير السلالة الأوربية وهجرة (رجال الشمال) . إنّ هؤلاء البيض الذين أستؤجروا كمرتزقة بواسطة الفراعنة ، تهاجنوا بشكل قوي مع المصريين وكذلك الليبيين . بالتالي من الضروري تجاهل ذلك والعودة إلى الليبي الأسمر البربري الحقيقي للعثور على الشعب الذي ربما حضّر مصر القديمة . إن تلك مهمة شاقة ، حيث أن البربر الأفارقة أصبحوا معدودين بشكل متزايد في الجزائر . في مصر نجد أن النوع البربري ممزوج كذلك . وفقا لهذه النظرية فإنّ البرابرة الأفارقة من الغرب ، الليبيين السمر إستقروا في وادي النيل الجديد ، ثم مباشرة أو بعد وقت قصير من ذلك عمل غزو الأوربيين على تهجين ليبيي شمال أفريقيا. إنّ هذا الليبي ذو الدماء الممزوجة ، ذو البشرة البيضاء والعيون الزرق ، ربما عدّل من الإنسان المصري الأول . بدمه الأوروبي فإن هذا المصري ربما ينتسب للسلالة الهندية الأوربية والآرية )) .
إنّ هذه الأطروحة هي تحفة التفسيرات القائمة على التصور المحض فهي تستند بشكل مجرد على العاطفة . لقد إستشهد بها لأجل براعتها وتصميمها لإثبات أن للمصريين نوعا أو بأخر شيء آري . إن كلمة (آري) هي الكلمة الجوهـرية التي كان عليه أن يصلها . لقد إقتبست الفقرة لأنها واضحة وبخلاف النظريات السابقة . إنها ثمــرة الإفترضات الغير مبررة من قبل المتخصصين الذين إقتنعوا بأنّ كل شيء ذو أهمية في الحياة يأتي فقط من سلالتهم وأننا إذا ما بحثنا بعناية فإننا متأكدون على قدرتنا إثباته والتفسير لن يكتمل حتى يبلغ ذلك الهدف . منذ ذلك أعير قليل من الإهتمام في إذا ما جرى دعم للإثبات بحقائق أم لا . إنه ذاتي الكفاية ومعيار صلاحيته يندمج مع هدفه . لقد أشرنا مسبقا إلى الأفكار المضطربة عن البربر ، لذا فلا حاجة إلى العودة إلى ذلك الموضوع . إن الليبي الأسمر البربري الحقيقي ، النمط النموذجي للسلالة البيضاء ، هو حقيقة مثل السيرانيين . علاوة على ذلك فإن المرء إذا ما إستند على الحجج الآثرية فإن شمال أفريقيا لم يكن أبدا نقطة إنطلاق للحضارة . لقد بدأت تؤخذ في إعتبار التاريخ فقط مع قرطاج المستعمرة الفينيقية ، حينما كانت عمر الحضارة المصرية عدة الآف من السنين ، فإذا كانت الحضارة المصرية قد جاءت من جنوب أوروبا كما يفترض (ماسبيرو) وإن كانوا قد تسللوا إلى الوادي عبر الغرب والجنوب الغربي لإدخال عناصر الحضارة ، فإننا لا نستطيع أن نفهم لماذا لم تخلف تلك الحضارة آثارا في موطنها أو على إمتداد الطريق الذي جاءت عبره . إنه من الصعب فهم أنّ يترك هذا العرق الأبيض المبشر بالثقافة أوروبا حيث البيئة المؤدية لتطور الحضارة دون أنّ يصنعها ، كيف له أن يعبر السهول الغنية لـ (تيل) ، المساحات الشاسعة التي تفصل شمال أفريقيا عن مصر - قبل أن تصبح تلك المساحات صحراء – أو سبب عبورها مصر السفلى ، الإقليم ذو المستنقعات وغير الصحي ثم تمددها إلى الصحراء النوبية ، تسلق السهول العالية لإثيوبيا ، إجتياز الآف والآف الأميال لصنع حضارة في بعض المناطق النائية ، بحيث تعود هذه الحضارة لاحقا لتهبط إلى وادي النيل . لنفترض أن هذه هي الحالة ، كيف يمكننا تفسير أن جزء صغيرا من هذه السلالة الذي بقي في موطنه ، في بيئة مواتية لإزدهار الحضارة ، بقي غير بارزا حتى القرون التي سبقت عصر المسيح ؟
بإعتراضنا على الفرضية التي مفادها أنّ شمال أفريقيا سكنها الجنس الأبيض من بداية العصر القديم ، فإننا نستدعي الحجج الأثرية والتاريخية التي تشهد بشكل إجماعي بأن هذا الأقليم كان سكانه دائما من الزنوج . لقد أخبرنا (فيرون) بأن في نهاية العصرالحجري جرى إكتشاف خمسة طبقات لرجال متحجرين في منطقة قنسطنطينه بالجزائر ، من بينهم العديد من شبيهي الزنوج الذين يشبهون نوبة مصر العليا . على إمتداد الحقب التاريخية تثبت الحجج اللاتينية بوجود السود على إمتداد شمال أفريقيا : (( لقد أمدنا المؤرخون اللاتينيون بمعلومات عن السكان ، أسماء في الغالب تعني القليل بالنسبة لنا . إن علينا أن نتذكر بأن عددا كبيرا من الزنوج كان موجودا ، إثيوبيي هيرودتس الذين ربما تحدروا من سلالة (الهارتينز) في أعالي الأطلس المغربي )) . إن هذا الإقتباس الأخير يثبت حتى الآن أنّ السود موجودين في هذه المنطقة . إن الحضارة الوحيدة ما قبل التاريخ التي شّعت من هنا حتى مصر ، هي عائدة للسود على الأرجح .
(( خلال ذلك العصر كان أشباه الزنوج في العصر الحجري القديم العلوي في أفريقيا والشرق - التي لم يطأها الـ (سلوتور ) و (الماجدوليين) - متواصلين مباشرة من خلال الحضارة القبصية – نسبة إلى قفصة بتونس – ومن هناك ربما وصلت تلك الحضارة إلى باقي شمال أفريقيا ، إسبانيا ، صقليه ، جنوبي إيطاليا ، متنافسين مع القوقازيين والمنغوليين على حوض البحر الأبيض المتوسط من جانب ومع ليبيا ، مصر وفلسطين على الجانب الأخر . بإختصار فإن تأثير تلك الحضارة بلغ إلى حد ما الصحراء ، أفريقيا الوسطى وحتى جنوب أفريقيا . لقد قادت هذه الحضارة القبصية إلى إزدهار فني ، تماثل في رسوماتها المجوفة ما وصل إليه الماجدوليين في أوروبا ، غير أن الفن القبصي يميل إلى التجريد ، إلى ذلك الأسلوب التخطيطي للشخصيات الذي ربما أصبح منشأ للكتابة . ما هو صحيح بما يكفي أنه ليس كل شخص يوافق على التاريخ الذي عثرت عليه تلك الرسومات في أماكن متعددة من الصحراء وحتى في الجزائر . البعض يراها تعبيرا عن الحضارة القبصية ، بينما أخرون ينسبونها إلى حقبة متأخرة من العصر الحجري الحديث . إن منظر الكبش وهو ممسك بقرص أو جسم كروي بين قرنيه ، يجعل هذه الحضارة الصحراوية ترتبط بالعبادات المصرية في عصر ما قبل الأسرات . هذا هو آمون الآله الكبش الذي رأيناه مبتدعا في الصحراء التي سكنها الرعاة الذين يقودون قطعانهم وثيرانهم إلى المرعى حيث هي اليوم مجرد صحراء )) .
عليه فإن دراسة الوثائق تشهد على وجود الحضارة الزنجية مبكرا في عصور ماقبل التاريخ عند تلك النقطة التي يعتقد أنها بداية الحضارة المصرية . إن الحقائق التي لوحظت سابقا في الحضارة القبصية والمجدولية ، تكشف عوضا عن ذلك أن السود غزوا أوراسيا (آسيا وأوروبا) حيث يفترض أنهم هزموا العالم . لذا فقد كتب (دمولان دي لابلانتي) مشيرا إلى بداية العصر الحديث الأقرب : (( إن هجرة الزنوج من نوع الهوتينتو الذين غادروا جنوب أفريقيا ووسطها ، ربما أستقروا في شمال أفريقيا ، الجزائر ، تونس ، مصر وجلبوا معهم بشكل فعال حضارة جديدة إلى أوروبا البحر المتوسط . لقد كان هؤلاء البشمان أول من نقش رسومات غير منتظمة على الصخور ونحتوا تماثيل صغيرة من الحجر الجيري تمثل نساء حاملات بدينات بشكل مخيف . هل يدين حوض البحر المتوسط الداخلي إلى هؤلاء الإفارقة بعبادة آلهة الخصوبة والأمومة ؟ إنّ هذه الفرضية المتمثلة في غزو الأفارقة الزنوج لشاطييء المتوسط ، تصطدم بالعديد من الإعتراضات . لماذا فر هؤلاء الرجال من حرارة الشمس سعيا وراء البرودة ؟ إذا ما قبلنا إفتراضا الهجرة من أفريقيا فإنه ليس من المدهش أن نعثر على أدوات العصر الحجري القديم العلوي (اورينياسي) في كل من فرنسا ، إيطاليا ، إسبانيا ، غير أنّ وجود هذه الأدوات في بوهيميا ، المانيا ، بولندا ، تجعل الفرضية أكثر هشاشة . أخيرا فإن أدوات العصر الحجري القديم العلوي موجودة في جاوا ، سيبيريا والصين . سواْ أكان السود قهروا العالم أو إفترضنا ذلك فإن هناك (تبادلات ثقافية) حدثت بين شعوب الأرض المختلفة )) .
مواجها بذات الدليل الأثري ، يتبنى (فورون) من جهته فكرة عبادة الخصوبة لتفادي الوصول إلى نفس الإستنتاجات . إن قبول هذه النظرية يصب في صالح نظرية الغزو الزنجي التي تدعمها هياكل الجريمالدي وجماجم العصر الحجري القديم العلوي . يتأكد الدور التحضري لأفريقيا حتى في عصور ما قبل التاريخ بشكل متزايد من خلال الباحثين الأكثر بروزا . يكتب (آبي برويل) : (( علاوة على ذلك يبدو من المرجح أكثر وأكثر أنه حتى في أيام العصر القديم للأدوات الصخرية الضاربة في القدم ، لم تكن أفريقيا فقط تعرف مراحل الحضارة البدائية ، مقارنة بأوروبا وآسيا الصغرى ، بل ربما كانت منشأ العديد من هذه الحضارات التي قهرت حشودها المندفعة تلك الأراضي التقليدية تجاه الشمال )) . إن رأي هذا الباحث العظيم يمضي للأبعد فهو رأي يظهر بشكل متزايد أن الإنسانية ولدت في أفريقيا . في الواقع فإن السلالات الأكثر أهمية لعظام الإنسان التي عثر عليها حتى اليوم كانت في جنوب أفريقيا . مع أنه المكان الذي لم يلق تنقيبا أكثر توسعا ، فإنه المكان الوحيد في العالم الذي وجد فيه عظام بحيث يتيح لنا بإعادة تشكيل شجرة أنساب الجنس البشري دون إنقطاع منذ البداية وحتى اليوم . مع أن ما سأقوله ليس في مجال علم الآثار ، إلا أنني سوف أتحدث أولا عن مسألة منشأ النوع البشري . بفضل نتائج دكتور / ريموند دارت في (تاونق) و (ماكبان) ونتائج دكتور / روبرت بروم في (ستيركفونتين) ، (كرومادراي) ، (سوارتكرانس) ، فإن تقدما كبيرا تحقق في ذلك البلد . قبل الإنسان كان هناك مخلوقا برجلين وبعدة أشكال ، غير أن سماته الإنسانية تطورت بشكل متزايد ، بحيث يمكننا الإعتقاد بأن النوع البشري قد خلق هناك . لقد إنجذب إهتمام المختصين أكثر وأكثر نحو هذه الإكتشافات العظيمة التي تتضاعف تقريبا كل شهر .
من الناحية العملية فإن هناك إتفاق على أنه حتى العصر الجليدي الرابع ، كان أشباه الزنوج ذوي الأنوف المفلطحة هم البشر الوحيدون . لقد أعلن علماء جنوب أفريقيين مؤخرا أنّ الرجال الأوائل كانوا سودا ، شديدي صبغة اللون . ربما إستغرق الأمر حتى العصر الجليدي الرابع الذي أستمر 100.000 عام حتى ظهرت سلالات يمكن تمييزها في سلالة أشباه الزنوج ، عقب فترة طويلة من التكيف من خلال عدد يسير جرى إحتجازه وعزله بواسطة الجليد ملامحها : ضيق المناخير ، فتح البشرة ، بؤبؤ العينين . تبقى حقيقة واحدة تمنحها الوثائق في أطروحة (الليبي) – الآري التي إستشهد بها فونتين – وهي إستغلال الفراعنة السود للبيض الشقر ذوي العيون الزرقاء والوشم كمرتزقة . كانت هذه القبائل جماعات متوحشة تعيش في الجزء الغربي من الدلتا حيث كان وجودها ، غير أنها لم تكن معروفة تاريخيا حتى الأسرة الحاكمة الثامنة عشرة . لقد عمل المصريون الذين كانوا يعتبروا هؤلاء كمتوحشين حقيقيين على أن لا يختلطوا بهم . في الغالب إستخدموهم كمرتزقة ، كما لم يتوقف المصريون عن كبح جماحهم في حملات مستمرة لضبط حدودهم . عند العصر الأدنى جرى إختراق مصر تدريجيا بواسطة الليبيين المستأنسين الذين أستقروا في منطقة الدلتا .
بحسب وصف (هيرودتس) أنه حتى نهاية التاريخ المصري فإن الليبيين ظلوا في الحلقة الأدنى من الحضارة فكلمة (متحضر) مهما كانت واسعة التعريف لا يمكن أن تنطبق عليهم . فيما يتعلق بقبيلة (ادرماشايدي) الليبية ، كتب أب التاريخ ( كانت نساؤهم يرتدين حلقة من البرونز على كل رجل وكانوا يتركون شعورهم تنمو طويلا وحينما يلتقطون هواما مؤذيا يعضونه ثم يرمونه بعيدا ) . بناء عليه فإننا نجد أنفسنا محتارين أمام محاولات نسب الحضارة المصرية إلى الليبيين . كنتيجة لهذه الفرضية فقد بذلت جهود لربط اللغات البربرية والمصرية بزعم أن البربر هم أسلاف الليبيين ، غير أن البربرية لسان غريب يمكن ربطه بكل أنواع اللغات : من جانب فقد جرى ملاحظة المتشابهات بين اللغة البربرية ، الغالية ، السلتية ، الويلزية ، غير أن اللغة البربرية تستخدم نفس القدر من الكلمات المصرية والأفريقية وبناء على وجهة نظر واحدة فإن أساس لغاتهم أصبحت هندية – أوربية ، آسيوية أو أفريقية . في الواقع فإن اللغات الليبية هي لغات أفريقية . من خلال هذه اللغات ربما حمل (الليغور) و (السيكول) عند وصولهم أوروبا قادمين من شمال أفريقيا لسانا أفريقيا ويمكن أن تكون لغة الباسك مثالا لذلك . الشيء ذاته ينطبق على قواعد اللغة البربرية فالمتخصصون في اللغة البربرية حريصون على أن لا يصروا على العلاقة بين اللغة البربرية والمصرية . من جهته كان الأستاذ (أندريه باسيه) مثلا يرى بأنه يجب أن تطرح مزيد من الحقائق المقنعة قبل أن يقبل الفرضية الحامية - السامية (علاقة اللغة البربرية والمصرية على وجه الخصوص) فكلا اللغتين تتأنث عندهما الأسماء عند إضافة الـ (ت) والشيء ذاته بالنسبة للغة العربية . مع التسليم بما يعرف عن الشعوب البربرية والعربية فإننا نتعجب بشأن (الأميلينيو) فيما يخص التأثير وعدم إفتراض مجيئه من الجهة المقابلة ، مما يتطابق مع العلاقة التاريخية للشعبين .
إن هذه ليست القصة كلها . يكشف البحث الدقيق أن الأسماء المؤنثة في اللغة الألمانية تنتهي بـ (ت) و (س ت) . هل علينا أن نعتبر أنّ البرابرة تأثروا بالألمان أو العكس ؟ إن هذه الفرضية لا يمكن رفضها مقدما ، حيث أن القبائل الألمانية إجتاحت في القرن الخامس شمال أفريقيا عبر إسبانيا وأسسوا إمبراطورية حكمت لمدة (400) عام . بعد ذلك الفتح إستقر الفاندال الذين بقوا هناك مع السكان ، فيما قاد قسم منهم بقيادة (جينسيريك) محاولة غير ناجحة لقهر روما بالعبور عبر صقلية وربما عادوا إلى شمال أفريقيا . إضافة إلى ذلك فإن الجمع في 50% من الأسماء البربرية يتشكل بإضافة (ي ن) كما في الأسماء المؤنثة في اللغة الألمانية ، كما أن 40% يتشكل فيها الجمع بإضافة (أ) مثل الأسماء المحايدة في اللغة اللاتينية . بما أننا نعلم أنّ الفاندال هزموا من الرومان فلماذا لا يتوجب علينا أن نميل للبحث عن تفسيرات بشأن البرابرة في ذلك الإتجاه من حيث الناحية اللغوية والشكل الجسماني : الشعر الأشقر ، العيون الزرقاء ، الخ .. ؟ متجاهلين كل تلك الحقائق فإن المؤرخين حكموا بأنه لم يكن هناك تأثير فاندالي وأنه من غير الممكن نسب أي شيء للبربر إلى موطنهم . على ضوء أعدادهم الكبيرة ومكانتهم كمنتصرين فإننا لا نعتقد أنهم هجروا لغتهم بشكل تلقائي إلى تبني لغة البرابرة ، كما أنه لا يوجد نص لاتيني يشير إلى ذلك . عادة ما تكون العلاقات الإجتماعية أكثر تعقيدا وينعكس هذا التعقيد على اللغويات . حتى حينما تختفي اللغة تتفاعل على لسان غالب من خلال نقلها غير أنها لا تبقى مثلما كانت ذي قبل . لذا من الصعب فهم كيف أن اللغة البربرية الحديثة خالية من أي تأثير فندالي . كذلك من الصعب فهم أن البربر الحديثين ليسوا من نسل الفاندال ، خاصة عندما يكون لهم عيون زرقاء وشعر أشقر .
لقد كانت (مقدمة إبن خلدون) عن البربر مجرد سلسلة من الإقتباسات غير الموثقة . إن الحقيقة التي مفادها أنه لا يوجد بربر في مصر مع وجود قليل لهم في تونس وأن أعدادهم تزايدت من الشرق إلى الغرب ليصل إلى ذروته في المغرب ، تبدو مؤيدة لفرضية منشأ الفاندال . لقد أولى المؤرخون قليلا من الإهتمام لأنه من الضروري جعل البربر قدماء بما فيه الكفاية لتبرير الحضارة المصرية . مع أن (20) جملة بربرية وجدت في نصوص عربية تعود للقرن الثاني عشر ، إلا أنّ أن كتابة الـ (تيفيناق) ذات الرموز التي لم تفك شفرتها حتى اليوم والتي يطلق عليها (ليبية) تبدو عائدة لتأثير العنصر المحلي للمستعمرة الفينيقية شبه الزنجية لـ (قرطاج) قبل وصول الفاندال . بإيجاز فإن ترتيب سكان شمال أفريقيا منذ ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا هو على النحو التالي :
- الزنوج والكرومانيون (سلالة إنقرضت من 10.000 سنة) . - الزنوج في العصر القبصي . - الزنوج خلال العصر الفينيقي . - الهنود الأوربيون إبتداء من 1500 قبل الميلاد وربما إمتزجوا مع الزنوج . - الزنوج في عصر الرومان مع نسبة مئوية كبيرة من الدماء المختلطة . - الفاندال والعرب .
أليس من الطبيعي إذن أن ينتمي أساس مفردات اللغة البربرية إلى لغات هندية أوربية ، سامية ، أفريقية ، بناء على وجهة نظر ما ؟ مع تطور علم الآثريات المصرية نصل إلى (ماسبيرو) الذي وصف أصل المصريين في كتابه (التاريخ القديم لشعوب الشرق) : (( يبدو أنّ المصريين قد فقدوا مبكرا ذاكرة بداياتهم . هل جاءوا من أفريقيا الوسطى أو من داخل آسيا ؟ وفقا لشهادة قدماء المؤرخين شبه الإجماعية فإنهم ينتسبون إلى سلالة أفريقية إستقرت أولا على ضفاف النيل الأوسط ، ثم إتجهت تدريجيا نحو البحر ، متتبعة مجرى النهر حتى البحر . لإثبات ذلك فإنه يمكن الإستناد على التشابهات الواضحة بين عادات وديانة مملكة مروي وعادات وديانة المصريين . ما هو معلوم اليوم بشكل قاطع أنّ أثيوبيا التي يعرفها الإغريق ، التي لم تستعمر مصر ، كانت قد أستعمرت من قبل مصر ، إبتداء من الأسرة الحاكمة الثانية عشر ولقرون ضمن مملكة الفراعنة ))
قبل الإستمرار مع أطروحة (ماسبيرو) ، علينا أن نلاحظ ما جرى من تغيير في بعض الجمل الإفتتاحية . إنه من المستبعد أن ينسى المصريون أصلهم أبدا . لقد خلط (ماسبيرو) بشكل ظاهر فكرتين بارزيتن : المنشأ الأولي الذي بدأ منه الشعب والأصل العرقي المسئول عن لون السلالة ، فالمصريون لم ينسوا أبدا الأول مثلما لم ينسوا الأخير . إنّ ذلك معبر عنه في كل فنونهم ، على إمتداد أدبهم ، في كل ظواهرهم الثقافية ، في تقاليدهم ولغتهم ، بل أن بلادهم سميت بإسم (كيميت) وهو إسم يتطابق مع حام (شام) ، الجد الأعلى للسود بحسب الكتاب المقدس . إن القول بأن (كيميت) تشير إلى لون التربة المصرية أكثر مما تشير إلى لون السلالة المصرية ، يلهم على إستدلالات مشابهة لتفسير التعبيرات الراهنة اليوم : (أفريقيا السوداء) و (أفريقيا البيضاء ) . مع أنّ (ماسبيرو) أشار إلى شهادة جماعية لقدامى المؤرخين عن السلالة المصرية ، إلا أنه تجاهل بشكل متعمد دقتهم . إنّ ما نعرفه مسبقا عن شهادة القدماء يثبت أنهم لم يستخدموا المصطلح المبهم (السلالة الأفريقية) . منذ (هيرودتس) وحتى (ديودورس) - الذين إستشهد بهم (ماسبيرو) – وحيثما ذكروا الشعب المصري ، حددوا بأن هناك سلالة زنجية كانت حاضرة .
هنا يمكننا تتبع التطور في التغيير التدريجي للحقائق في الكتب المدرسية الذي سوف يشكّل الرأي لدى طلاب الثانويات والجامعات . إن ذلك هو الأكثر خطورة لأن قدرا عظيما من المعرفة التي سوف تكتسب ، لا تدع للجيل الجديد - عدا المتخصصين - مجالا للرجوع إلى المصادر الأصلية وتقييم الفارق بين الحقيقة وبين ما درسوه . في المقابل فإن هناك ميل مؤكد للتراخي عن تشجيعهم بالإكتفاء بالكتب المدرسية وقبول الأفكار النمطية لـ (مرجع معصوم من الخطأ) كما لو أنها كتاب لتعليم الدين . إذا ما أستخدمنا إستدلال (ماسبيرو) لدحض أفكار (ديودورس) عن عراقة إثيوبيا فإننا قد نكون قادرين على أن نستنتج القول بأنه بما أن (نابوليون) قهر إيطاليا وضمها في القرن التاسع عشر ، فإن روما لم تعمل على تحضّر فرنسا – وهو ما سيكون خطأ تاريخيا واضحا . يقول (ماسبيرو) (( علاوة على ذلك فإن الكتاب المقدس يذكر أنّ مصرايم بن حام وأخ كل من كوش وكنعان ، قد جاء من بلاد ما بين النهرين ليستقر بجانب أبنائه على ضفاف نهر النيل )) . يفشل (ماسبيرو) في الإضافة بأنّ حام ، كنعان ، كوش هم زنوج وفقا للكتاب المقدس الذي إستشهد به . إنّ ذلك يعني مرة أخرى أنّ مصر (حام ، مصرايم) ، إثيوبيا (كوش) ، فلسطين وفينيقيا قبل اليهود والسوريين (كنعان) ، والجزيرة قبل العرب (بوط ، هيفيلا ، سابا) ، قد سكنها جميعها الزنوج حيث صنعوا في تلك المناطق حضارات عمرها آلاف السنين وأحتفظوا بعلاقات عائلية . يواصل (ماسبيرو) قائلا :
(( لقد جسّد (لوديم) الإخ الأكبر بينهم المصريين الأصليين على النقوش الهيروغلوفية وهم الروتو والروميتو . أما (عناميم) فقد مثّل قبيلة (عنو) العظيمة التي أسست (أون) شمال (هليوبوليس) و(أون) جنوب (هيرمونثيس) في عصور ما قبل التاريخ . بالنسبة لـ (ليهابيم) فقد مثّل الشعب الليبي الذي أقام غرب النيل ، أما (نفثوحيم) فقد إستقر في الدلتا جنوب مفيس وأخيرا (باثروسيم) الذي إستقر في أرض الجنوب (باتروزي) والتي تقع اليوم بين مفيس والشلال الأول )) . إن هذا التقليد الذي جلب المصريين من آسيا عبر برزخ السويس كان معروفا لدى الكتاب التقليديين . (بليني) الأكبر نسب تأسيس هليوبوليس إلى العرب ، لكنه رأي لا يلاقي رواجا أبدا مثل ذلك الرأي القائل بأنهم قدموا من السهول العالية لأثيوبيا )) .
بشكل أكثر أو أقل فإن هذا التعريف لا أساس له فهو يبدو متناقضا عند ربط الليبيين ذوي العيون الزرقاء والشعر الأشقر مع (ليهابيم) إبن مصرايم وكلاهما زنجي . هناك تناقض أخر فـ (ماسبيرو) يقبل في بعض الأحيان بنظرية الأصل الأسيوي للمصريين ويستدعي رأي (بليني) الأكبر الذي ينسب تأسيس (هليوبوليس) للعرب . في ذات النص يؤيد (ماسبيرو) إستقرار الـ (عنو) في تلك المدينة وهم الذي عرّفهم مع (عناميم) بأنهم زنوج . إن تعليقاتنا على العرب في الفصل الأخير تستبعد أي إحتمال لتأسيسهم لـ (هليوبوليس) ، خاصة إذا حدث ذلك في عصور ما قبل التاريخ كما أكد المؤلف . يمكننا أن نرى لماذا لم تتمتع رؤية (بليني) بالرواج بين القدماء كما هو رغّب في ذلك . نعود إلى رواية (ماسبيرو) :
(( لقد أوحى المنشأ والتشابهات العرقية الجغرافية للسكان في أيامنا بإثارة جدل مطول . أولا لقد ضلل رحالة القرن السابع عشر والثامن عشر بمظهر الأقباط المهجنين ، شاهدهم في ذلك أنّ أسلاف الأقباط في العصر الفرعوني لهم وجه منتفخ ، أعين ضيقة ، أنف مفلطح ، شفاه مكتنزة وأنهم أظهروا ملامح مميزة للعرق الزنجي . هذا خطأ شائع منذ بداية القرن وقد تلاشى وللكل حالما نشرت اللجنة الفرنسية عملها الكبير )) . إنّ أي شخص يقرأ هذه الرواية من دون أن يرجع أولا إلى شهادة (فولني) والملاحظة التفسيرية عن التأثيرات المناخية على الشكل العرقي ، ربما يقتنع بسهولة من أنّ هؤلاء الرحالة في القرون الماضية كان يمكن أن يخدعوا بسهولة من خلال الشكل . واضعين في الإعتبار ما قيل عن التسلل التدريجي للبيض إلى الدلتا في مصر ، خاصة خلال العصر الأدنى – فإن كان هناك تهجينا فإنه يمكن أن يؤدي فقط إلى تبييض السكان ، لا أن يكون بتسويد البيض السابقين بحيث يكون غير قابلا للتمييز بواسطة مراقبين محايدين . دعنا نرى إذا كان علينا أن نصدق بأن (ماسبيرو) في قوله بأن (خطأ شائعا) قد تلاشى وللكل حالما نشرت اللجنة الفرنسية عملها الكبير :
(( عند فحص النسخ التي لا حصر لها للتماثيل والنقوش الصخرية فإننا ندرك بأن الشعب الذي جرى تمثيله على الآثار يشابه حقيقة السلالات البيضاء لأوروبا وآسيا الغربية ، بدلا من أن تظهر الشكل العام وتفاصيل الإنسان الزنجي . يكفي أن تزور متحفا وتفحص التماثيل ذات النمط القديم التي جمعت هناك . منذ الوهلة نشعر بأن الفنان قد سعى إلى إنتاج مضاهاة متقنة في الرسم التصويري الدقيق للرأس والأطراف . بإستبعاد الفروق الخاصة بكل فرد فإننا نكتشف بسهولة السمات العامة والأنواع الرئيسية للسلالة . أحد هذه التماثيل سميك وثقيل ، يشابه تماما أحد الأنماط السائدة اليوم بين الفلاحين المعاصرين . هناك تمثال أخر يصّور أفرادا من الطبقة العليا ويظهر لنا رجلا طويلا ونحيفا بمنكبين عريضين وصدر بارز ، أذرع عضلية ، أيدي صغيرة ، أفخاذ وسيقان نحيفة . التفاصيل التشريحية للركبة وعضلة بطة الساق بارزة كما هو الحال مع معظم الناس الذين يمشون كثيرا . قدميه طويلة ، رقيقة ، مسطحة في النهاية بسبب التعود على المشي بدون حذاء ، أما رأسه فهو في الغالب ثقيل على جسمه ، يعبر عن الرقة والحزن الفطري ، أما جبينه فهو مربع وربما كان منخفضا قليلا ، أنف قصيرة ، عينين واسعتين ، خدود مستديرة ، شفاه غليظة لكنها غير مرتدة ، الفم عريض يحتفظ بإبتسامة تكاد تعبر عن الألم . إن هذه السمات العامة لمعظم تماثيل الإمبراطورية القديمة والوسطى ، إستمرت خلال كل العصور . إنّ آثار الأسرة الحاكمة الثامنة عشر مع أنها تقل من حيث الجمال الفني عن تلك التي للأسر القديمة الحاكمة ، إلا أنها تنقل النمط البدائي دون تغيير محسوس . مع أنّ الطبقات العليا قد جرى تشويهها من خلال إمتزاج الأجناس المتكرر مع الأجانب ، إلا أن الفلاجين العاديين إحتفظوا في كل مكان تقريبا بشكل أسلافهم . إنّ أي فلاح يمكن أن يتأمل بدهشة تماثيل (خفرع) أو (سونسوريت) وهي تحمل بعد 4.000 سنة سحنة أؤلئك الفراعنة القدامي )) .
هذا هو محور إثبات (ماسبيرو) ولم نسقط كلمة واحدة منه . ماذا يثبت ؟ ماذا علّمنا (العمل الكبير) ؟ يؤكد لنا المؤلف أن علم الآثار المصرية هو علم قديم تماما وأنّ المتخصصين ظلوا لقرن من الزمان ينقبون ويبحثون واليوم نعرف الصورة النموذجية للمصري القديم حتى أكثر التفاصيل العرقية ثانوية . لقد صّور الفنان (مضاهاته المتقنة) في الرسومات وبفضل هذا الفن الواقعي يمكننا أن نعيد تشكيل أفراد الطبقة العليا من الناحية العرقية . وفقا لملاحظات (ماسبيرو) فإن لهم (أنف قصيرة ومكتنزة ، فم عريض ، شفاه غليظة ، عيون واسعة ، خدود مستديرة ، منكبين عريضين عضليين ، أيدي قصيرة ، أفخاذ وسيقان نحيفة) . إنّ هذه السمات العامة إستمرت على إمتداد الممالك القديمة والوسطى . ( تشبه بشكل حقيقي السلالات البيضاء لأوروبا وغربي آسيا ولا تظهر خصائص الزنوج وشكلهم العام ) . إنّ هذا الإستنتاج لا يحتاج إلى تعليق .
بعد تأكيد جاد للمنشأ الزنجي للحضارة لمؤلف كان قصده دحض ذلك ، نرى مرة أخرى إستحالة إثبات عكس الحقيقة . إن (قاستون ماسبيرو) الذي أصبح مديرا لمتحف القاهرة عام 1889 ندين له في الواقع بالعديد من ترجمات النصوص المصرية . لقد كان لدية الإستعداد الفني اللازم لإرساء كل ما هو قابل للإثبات . إنّ إخفاقه رغم تلك المعرفة الذي يماثل إخفاق الباحثين الذين سبقوه ومن جاءوا من بعده في تناولهم لهذه المسألة ، يشكل البرهان الأكثر متانة للأصل الزنجي . ثم نجيء لأطروحة عالم في الآثار المصرية نادرا ما يشار إليه وهو - آبي إيميلي أميلينو- ( 1850- 1916) . لقد نقّب الرجل في (أم القعب) بالقرب من (أبيدوس) وأكتشف مدافن ملكية ، حيث إستطاع تحديد أسماء (16) ملكا ، ربما كانوا أكثر قدما من (مينا) نفسه . لقد عثر على مدافن لأربعة ملوك هم : كا ، دين ، الملك الثعبان دجيت (الذي توجد مسلته في متحف اللوفر) وملك أخر لم تفك شفرة إسمه . مثلما أورد (أميلينو) فقد جرت محاولات لإدراج هؤلاء الملوك في الحقبة التاريخية : ( في إجتماع أكاديمية النقوش والمسجلات الأدبية حاول ماسبيرو أن يضغ هؤلاء الملوك في الأسرة الحاكمة الثامنة عشر ، ثم الخامسة ثم الرابعة ) . بعد أن دحض رأي مناوئيه ، توصل (أميلينو) إلى ( إن هذه الأسباب لا تبدو لي مستحقة للإزدراء ، بل العكس أنها تستحق الدراسة الجادة من قبل الباحثين ذوي النية الحسنة ، فيما لا أعر إهتماما للأخرين ) .
إلى (أميلينو) يعود الفضل في إكتشاف مقبرة (أوزيرس) في (أبيدوس) والذي بسببه لم يعد أوزيريس (بطلا أسطوريا) ، بل شخصية تاريخية ، الجد الأولي للفراعنة ، جد أسود مثل أخته إيزيس . لذا يمكننا أن نفهم سبب طلاء المصريين لآلهتهم باللون الأسود الفاحم في صور سلالتهم منذ بداية تاريخهم حتى نهايته . إنه لمن التناقض وعدم الإستيعاب أن لا يقوم الشعب الأبيض بطلاء آلهته باللون الأبيض ، بل أن يختار بدلا عن ذلك طلاء أوزيرس وإيزيس وهي أكثر الكائنات قداسة باللون الأسود على الآثار المصرية . إنّ هذه الحقيقة تكشف واحدة من تناقضات المعاصرين الذين يشددون بشكل قاطع على أنّ الجنس الأبيض قد صنع الحضارة المصرية مع سلالة سوداء مستعبدة كانت تعيش بجواره . أما إختيار لون العبيد بدلا من لون السادة والمتحضرين ليكون لونا للآلهة فهو أمر لا يمكن قبوله ويتعارض مع المنطق والموضوعية . إنه (أميلينو) بعد معطياته الهائلة ودراسته العميقة للمجتمع المصري ، توصل إلى الإستنتاج التالي الأكثر أهمية بالنسبة لتاريخ الجنس البشري : (( من العديد من الأساطير المصرية أصبحت قادرا على أن أتوصل إلى أنّ السكان الذين أستقروا في وادي النيل كانوا زنوجا ، لأنه يقال أنّ الآلهة إيزيس كانت إمرأة سوداء اللون بصبغة محمّرة . بمعنى أخر كما شرحت فإن لون بشرتها كانت أشبه بلون القهوة مع الحليب ، مثل ذلك الذي لسود أخرين تبدو بشرتهم مثل لمعان النحاس )) .
يسمي (أميلينو) السلالة السوداء الأولى التي سكنت مصر بإسم (أنو) ويبين أنها هبطت ببطء على وادي النيل وأسست مدن : إسنا ، أرمنت ، قوص ، هليوبوبيس ، حيث يقول : (( إنّ لكل هذه المدن رمز مميز يشير إلى إسم (أنو) . إن علينا أن نقرأ هذا المصطلح بذات الحس العرقي مطبقا على أوزيريس . في الفصل الذي يقدم الأناشيد تمجيدا لـ (رع) ويتضمن الفصل الخامس عشر من (كتاب الموتى) نقرأ ( سلام عليك يارب أنو في أرض أنتيم الجبلية ، أيها الرب العظيم ، ياصقر الجبل الشمسي الثنائي ) . إذا كان أوزيريس من أصل نوبي ، مع أنه ولد في طيبه ، سيكون من السهل فهم سبب الصراع الذي دار بين (سيت) و (حورس) في بلاد النوبة . علي أي حال إنه من المدهش أن تحمل الآلهة (إيزيس) وفقا للأسطورة ، نفس لون البشرة الذي عادة ما يحمله النوبيون ، كما أنّ الإله (أوزيريس) له نعت عرقي يشير إلى أصله النوبي . إن هذه الملاحظة لم ترد أبدا من قبل )) . إذا ما قبلنا بدليل إبداعاتهم ، كتاب الموتى من بين أخريات ، فإن هؤلاء الـ (أنو) الذين حاول (ماسبيرو) تحويلهم إلى عرب ، يبدو بالأساس زنوجا . في دعم لنظرية (اميلينو) يمكن الإشارة إلى أنّ (ان) تعني رجل بلغة الـ (ديولا ) . لذا فإن (أنو) يمكن أن تعني رجال ( لمشابهات أخرى يمكن قراءة الفصل العاشر) . وفقا لـ (أميلينو) فإن الـ (انو) هذه السلالة السوداء قد صنعت كل عناصر الحضارة المصرية في عصور ما قبل التاريخ ، التي إستمرت دون أن يطرأ عليها تغيير هام على إمتداد وجودها الطويل . ربما كان هؤلاء السود أول من مارس الزراعة والري في وادي النيل ، أقاموا السدود ، إبتدعوا العلوم ، الفنون ، الكتابة ، التقويم . لقد إستنبطوا نظرية نشأة الكون في (كتاب الموتى) ، نصوص لا تدع مجالا للشك عن زنجية السلالة التي صّورت الأفكار .
يقول أميلينو (( كان هؤلاء الـ (انو) مزارعين يربون الماشية على مساحة واسعة بجانب النيل ، يحمون أنفسهم بمدن ذات أسوار لأغراض دفاعية . لهذا الشعب يمكننا أن ننسب وبدون خوف من الوقوع في خطأ ، أكثر الكتب المصرية عراقة : (كتاب الموتى) و (نصوص الإهرامات) وبناء عليه كل الأساطير والتعاليم الدينية وسوف أضيف إلى ذلك كل النظم الفلسفية تقريبا التي عرفت ولا تزال بالنظم الفلسفية المصرية . لقد كانوا يدركون بشكل جلي الحرف اللازمة لأي حضارة وكانوا على معرفة بأدوات تلك الحرف المطلوبة . كانوا يعرفون كيف يستخدموا المعادن ، على الأقل المعادن الأولية وأجروا محاولات مبكرة في الكتابة ، حيث أن كافة التقاليد المصرية تنسب هذا الفن إلى (تحوت) هرميس العظيم والذي يسمى بالـ (أوني) في الفصل الخامس عشر من (كتاب الموتى) وفي (نصوص الإهرامات) . من المؤكد أنّ الشعب كان يعرف الفنون الرئيسية فقد خلف برهانا على ذلك في هندسة المدافن في (أبيدوس) ، خاصة مدفن (أوزيريس) وفي أغراض الأضرحة التي وجدت وهي تحمل بصمة واضحة لمنشأها ، مثل العاج المنقوش أو رأس الفتاة النوبية الصغير الذي عثر عليه في مدفنة صغيرة بجوار (أوزيريس) ، أو الأوعية الخشبية أو العاجية التي إتخذت شكلا لرأس قط – كل المستندات التي نشرت في المجلد الأول من كتابي - حفريات أبيدوس )) .
مواصلا صياغة نظريته يقول (أميلينو) : (( إن الإستنتاج الذي يمكن إستخراجه من هذه الإعتبارات هو أنّ شعب الـ (أنو) المهزوم قد كان دليلا على الأقل لقاهريه إلى بعض من مسارات الحضارة والفنون . إنّ هذا الإستنتاج هو الأكثر أهمية بالنسبة لتاريخ الحضارة الإنسانية وتاريخ الديانة . إن ذلك ينبع بشكل جلي مما ذكر سابقا : ان الحضارة المصرية ليست ذات منشأ آسيوي ، بل منشأ أفريقي وزنجي وإن بدأ في ذلك مخالف لما هو شائع . إنه ليس من المعتاد في الواقع أن نخلع على السود والسلالات ذات الصلة قدرا كثيرا من الذكاء ، أو حتى قدرا كافيا من الذكاء يمكنهم من تحقيق الإكتشافات الأولى اللازمة للحضارة . مع ذلك فليست هناك قبيلة واحدة سكنت داخل أفريقيا لم تمتلك أو لا تزال لاتمتلك واحدة من تلك الإكتشافات الأولى )) . لقد إفترض (أميلينو) أنّ مصر الزنجية التي تحضّرت مسبقا بواسطة الـ (أنو) قد جرى غزوها من داخل أفريقيا بواسطة الجنس الأبيض الخشن الذي قهر أهل الوادي تدريجيا حتى وصل مصر السفلى . هذه السلالة البيضاء عديمة الثقافة ، ربما جرى تحضّرها على يد الـ (انو) السود ، مع أنه قضي على عدد كبير منهم . لقد إرتكز المؤلف في نظريته على تحليل المشاهد المصّورة على (لوحة نعرمر) التي أكتشفت بواسطة جيمس إدوارد كويبيل (1867 – 1935) عند هيراكمبوليس (الشكل 31) . يقر الرأي الحالي بشكل إجماعي بأن السجناء المصورين على تلك اللوحة بأنوفهم النسرية ، يمثلون الغزاة الأسيويون الذين جرت هزيمتهم ومعاقبتهم على يد الفرعون الذي كانت عاصمته في تلك الحقبة البعيدة في مصر العليا .
إنّ هذا التفسير تؤيده الحقيقة التي مفادها أنّ الأشخاص الذين كانوا يسيرون أمام الملك وينتسبون إلى جيشه المنتصر هم نوبيون ، يرتدون الشارة النوبية مثل رمز إبن آوى والباشق والتي يمكن أن نسميها الطواطم النوبية . إضافة إلى ذلك فإن المعطيات الأثرية لا تدعم فرضية أن السلالة البيضاء نشأت في قلب أفريقيا . إنّ ذيل الثور المحمول بواسطة الفرعون على هذه اللوحة والذي كان الفراعنة والكهنة يحملونه على الدوام ، لا يزال يحمل في الإحتفالات والمهام الرسمية بواسطة الزعماء الدينيين النيجيريين . الأمر ذاته صحيح بالنسبة للجلباب الذي يرتديه الفرعون والتميمة التي على صدره والتي كانت حاضرة دائما على إمتداد التاريخ المصري . توجد هذه التميمة على صدر أي زعيم زنجي يتولى منصبا فيه مسئولية ، في قبيلة الوولف يسمونه (داك) . يحمل الخادم حذاء الفرعون مشابها للـ (فوجانتي) الزنوج ، كما أن السير خلف الملك وحمل الإبريق له موقف مماثل من الخادم الزنجي المعاصر أو بيك – نك ، مقارنة بـ (باك) باللغة المصرية القديمة . إن حقيقة أن الملك قد خلع نعليه نوحي بأنه على وشك أن يقدم قربانا في مكان مقدس ، إذ عليه أن ينظف أطرافه أولا بماء في الإبريق . لقد عرف عن المصريين أنهم كانوا يمارسون الإغتسال قبل ألآف السنين من ظهور الإسلام . لذا فإن (لوحة نعرمر) ربما صّورت مشهدا طقسيا للتضحية عقب تحقيق إنتصار . إن حالات مشابهة لتقديم القرابين البشرية كانت لا تزال سائدة في أفريقيا حتى أوقات قريبة ، داهومي مثلا . فوق الضحية هناك مشهد يصّور (حورس) وهو ممسك على ما يبدو بحبل يمر عبر مناخير رأس مبتور ، ربما يجسد الحي الذي قدم قربانا للألهة ، متسللا الحبل عبر مناخير الضحايا والتي قبلت بواسطة (حورس) . إنّ (الحياة) و (الأنف) هما كلمتين مترادفتين في لغة الولوف وتستخدم غالبا بشكل متبادل .
ما هي الهوية العرقية للأشخاص الممثلين على هذا الجانب من اللوحة التي أعتقد أنها مقدمة اللوحة وليست مؤخرتها كما يعتقد عموما ؟ إنني مقتنع بأنهم ينتمون إلى ذات السلالة السوداء . للملك شفاه غليظة ، مرتدة بشكل متساوي ، صورته الجانبية لا تستطيع أن تخفي حقيقة أنفه المكتنزة والأمر نفسه ينطبق على كل الأشخاص ، حتى الأسرى الذين في أسفل المشهد الذين فروا بعيدا . الأخيرين مثل الضحايا كانوا على وشك أن يقدموا قرابينا ، لهم شعر مستعار مرتب على شكل طبقات أو إصطفاف ، أسلوب لا زلنا نشاهده في أفريقيا السوداء . هناك غطاء للشعر مشابه يسمى الـ (جمبي) ترتديه الفتيات ، عدّل على نحو قليل لترتديه النساء المتزوجات وسمي بـ (جيري) وقد إختفى من السنغال قبل نحو (15) عام وحديثا إنقطع الرجال عن ممارسة هذا العرف بسبب الإسلام . إنّ غطاء الشعر هذا لم يعد يشاهد إلا عند (السيرير) غير المسلمين قبل الختان وعند الـ (بيول) . هناك نوع خاص من أغطية الشعر هذه تسمى (نوجمبال) . يخفى شعر الملك وكذلك خادمه بواسطة قلنسوة . في مصر فإن إستخدام هذا الشعر المستعار هو أمر رائج بين كل الطبقات الإجتماعية ، أما في السنغال فهي لا تزال تلبس بواسطة الذين على وشك الختان ، مع أنّ هذا التقليد قد مال للإختفاء تحت تأثير الإسلام . بالنسبة للقلنسوة فهي تصنع بخياطة قطعتين بيضاويتي الشكل بلون أبيض بفتحة واحدة عند اليسار لمرور الرأس . يمنح خشب المامبو الإطار شكلا كالتاج الذي إرتداه فراعنة مصر العليا . عند إرتداء هذه القلنسوة بواسطة الرجال البالغين فإن إطار المامبو ينحى فيما يكون الجزء المستطيل أصغر . إن ذلك ينجم عنه ما سمي بشكل الفلنسوة الفريجية التي نقلها الإغريق إلى العالم الغربي . في (صور ضوئية) نشر مارسيل قرياولي صورا فوتوغرافية لهذه القلنسوات يرتديها الدوجون (شعب أفريقي أسود في مالي) .
يمكن هنا ملاحظة أن الملك يحمل فقط صولجانا في يده اليمنى ، بينما يمسك بيده اليسرى رأس الضحية . ربما يعتبر الصولجان صفة لمصر العليا ، مثلما كان التاج الأبيض . في المشهد الأول ربما بدأ الملك فتح وادي النيل . ربما كانت تلك هي اللحظة التي أخضع فيها رجالا من ذات سلالته إلى هيمنته . تبدأ خلفية اللوحة بمشهد نموذجي : الضحية المقهور ينتمي إلى مدينة (الممقوتين) كما يتبين من الخط الهيروغلوفي كما أشار بذلك (أميلينو) . ربما كانت المدينة المحصنة مدينة في مصر السفلى ، التي سكنتها سلالة تختلف يشكل واضح عن السلالة السوداء في الجانب الأخر : سلالة آسيوية بيضاء ، شعر الأسرى طويل بدون طبقات ، الأنوف طويلة بشكل إستثنائي ونسرية الشكل ، الشفاه باهتة تماما . بإختصار فإن كل السمات العرقية للسلالة التي على الخلف متعارضة تماما لتلك السلالة التي في المقدمة . إننا لا نستطيع ان نفرط في التشديد على حقيقة أن السلالة التي في الخلف هي التي لها فقط ملامح سامية .
بعد هذا الإنتصار الثاني تحقق توحيد مصر العليا والسفلى ويرمز إليه من خلال مشهد في منتصف خلفية اللوحة : تماثل قطين برأسي أسدين متحفزين ، تشير وضعيتهما إلى القتال إن كانا طليقين ، غير أنهما مقيدين وغير قادرين على إلحاق الضرر بكليهما ، بسبب الحبال الملتفة حول عنقيهما والتي يمسكهما شخصين متماثلين . إن ذلك يرمز إلى التوحيد ، في توافق لتمثيل مميز هو شائع للمصريين والسود عموما . في أعلى المشهد يرتدي الملك تاج مصر السفلى (الوجه البحري) الذي يظهر أنه قد قهرها وأن الفرعون قد أنهى المرحلة الثانية من فتح وادي النيل وهو الآن ممسك بكلتا يديه ما يمكن إعتباره شعاري الوجه القبلي والبحري . هنا يخلع الملك مرة أخرى حذائه التي يحملها خادمه ، حاملا نفس الإبريق ، سائرا خلفه كما في المشهد الذي على الجانب الأمامي . عليه فإننا نفترض أن المكان مكان مقدس وأن الضحايا قد قدموا قربانا حسب الطقوس ولم يجر قتلهم . أمام الملك يقف خمسة أشخاص ، أربعة منهم يحملون أعلاما بها رموز وثنية (طواطم) . من الواضح أن الطواطم الأول – الباشق وإبن آوى – تمثل الوجه القبلي ، بينما الطوطم الأخير لا يمثل حيوانا ، بل شيئا غير محدد ربما يجسد رمز الوجه البحري المهزوم .
لكل هذه الأسباب فإن تفسير (أميلينو) يبدو غير مقبول . إن الرأي القائل بأن جميع الأسرى الذين صّوروا كانوا أسيويين ، إنما تعميم يتجاهل تفاصيل اللوحة . إلى حد ما فإن تفسير (أميلينو) بأن كل المهزومين هم نوبيون ، يبدو تقسيرا خاطئا . إن حقيقة أن الأسرى هم نوبيون فعلا قد قاده إلى أن يتجنب الفارق العرقي بين الأخير والضحية الذي سحقه الثور الذي على خلفية اللوحة . وفقا لرؤية (إيميلينو) فإن الأخير لم يكن شعره مصفوفا في طبقات مثل النوبيين الذين على الجانب الآخر . إضافة إلى ذلك فإنه لم يكن يحمل ملامحهم العرقية الأخرى . بتجاهله هذه التفاصيل – عن حسن نية – فإن أميلينو توصل إلى الإستنتاج الذي مفاده أن أن سلالة بيضاء عديمة الثقافة جاءت من وسط أفريقيا وقهرت الـ (أنو) الزنوج سكان وادي النيل . الواقع أنه حتى إذا ما كان هناك تسللا في فترة ما قبل التاريخ من قبل الآسيويين أو الأوربيين الآوائل ، فإن الزنوج المصريين لم يفقدوا السيطرة على الوضع في بلادهم . تشير بذلك التماثيل العمرية الصغيرة التي صّورت السلالة القاهرة للأجانب . في كتابه (بدايات الفن المصري) قدم عالم الآثار البلجيكي (جيان كابارت) صورة تمثال لأسير أبيض وهوراكع ، يديه مقيدتيان خلف ظهره ، له جديلة شعر طويلة تتدلى من خلفه .
في نفس تلك الفترة تم العثور على ما يشبه الأعمدة في شكل سيقان أثاث ، تصّور نوع من سلالة بيضاء تعرضت للهزيمة . بالمقارنة فإننا نرى سودا يتجولون بحرية كمواطنين في بلدهم : (( هنا نشاهد أربعة نساء يرتدين أربعة تنورات ، يشبهن تماما النساء السود اللائي جرى تصويرهن على مدافن السلالة الحاكمة الثامنة عشر بما في ذلك مقبرة ( رخمرع ) . مع أنه يبدو غامضا بحيث يعتقد أن الشيء الذي يحملنه هو أذن بقرة ، إلا أنني أميل إلى الإعتقاد بأنه الشكل الأولى للصليب ذي العروة وهو الرمز الذي سرعان ما دخل بعد ذلك علم الدلالات المصرية ولم يبارحها . إن ذلك يشير إلى أن النساء الزنجيات كانوا مطمئنات في ديارهم وهن بين الحيوانات في أرضهم . لكن يبرز السؤال مرة أخرى : كيف يتسنى لمصرييي تلك الحقبة أن يعرفوا حيوانات وسط أفريقيا وسكانها إذا كانوا آسيويين أو ساميين دخلوا وادي النيل عبر برزخ السويس ؟ أليس الوجود الموثق على قطع العاج للحيوانات والسود المذكورين سالفا دليل على أن قاهري مصر جاءوا من وسط أفريقيا ؟ (نفس المرجع ص 425 – 426)) .
بخلاف الأفكار المقبولة بشكل عام فإنه من الواضح أن الوثائق الأكثر عراقة والمتوفرة في التاريخ المصري وتاريخ العالم تصّور السود كمواطنين أحرار ، سادة للبلاد والطبيعة وبجانبهم أنماط للعديد من السلالات البيضاء التي هي نتاج لتسلل أوروبي وآسيوي ، جرى تصويرهم على أنهم أسرى وأيديهم مغلولة خلف ظهورهم ((ربما يمثلون أصل الأعمدة الممثلة للأشخاص في معبد الأرخثيون في القرن الخامس عشر والتي جرى إقتباسها بواسطة الأغريق بعد ذلك بالآف السنين)) .
[/rtl]
salih sam
لـــواء
الـبلد : المهنة : College studentالمزاج : اللهم سلم السودان و اهل السودان التسجيل : 09/05/2011عدد المساهمات : 7924معدل النشاط : 6296التقييم : 271الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 17:35
[rtl]الفصل الرابع هل هناك إحتمال بنشأة الحضارة المصرية في الدلتا (مصر السفلى) ؟
لتفسير سبب إستقرار مصر وحضارتها يقدم المتخصصون أربعة فرضيات تتطابق مع الجهات الجغرافية الأربعة . الفرضية الأكثر طبيعية والتي تقول بأنها حضارة محلية المنشأ هي الفرضية التي قوبلت بتحديات أكبر . هذه الفرضية الأخيرة تتمحور حول مكانين مختلفين : مصر العليا ومصر السفلى . في حالة مصر السفلى يبدوالأمر متعلقا بمسألة تسمى اليوم بـ (أرجحية الدلتا) . لماذا يحاول جاهدا عالم بالآثار المصرية يدعم نظرية المنشأ المحلي ، أن يثبت (أرجحية الدلتا) ، بالرغم من غياب أي دليل تاريخي ، إن لم يكن ذلك إلتفاف لتأسيس منشأ أوسطي أبيض للحضارة المصرية ؟ في هذا السياق نجد أن (الكسندر موريه) يشارك الرأي القائل عموما بأن منشأ الحضارة المصرية كانت خارج مصر – آسيا أو أوروبا – مع أنه ظاهريا يؤيد منشأ محليا لكن على أساس أبيض . بالنسبة للرأي الأول فإنه يبدو منطقيا لحد ما في سبيل إيجاد تفسير مناسب ، غير أنه تأكيد يضاف إلى أخر كونه مجرد كذلك من الأساس التاريخي . إذا كان رواد الحضارة قد جاءوا من الخارج وإن كانت الجغرافيا قد أجبرتهم على عبور الدلتا ، فمن المنطقي الإفتراض بأن الدلتا قد تحضّرت قبل مصر العليا وأنّ الحضارة قد شعّت من هناك . إذا كان مؤيدو فرضية المنشأ الخارجي قادرين على إثبات زعم الدلتا السابق بدعم من الحجج الصحيحة ، فإن فرضيتهم تكون قد تقدمت بشكل كبير وعلى الأقل فإن ذلك سيقدم شكلا من الحقيقة المتعلقة بالأفكار المتناقضة التي طرحوها .
في الواقع فإنه ليس من الممكن فقط عدم إثبات تلك النظرية ، بل حتى إيجاد وثائق تاريخية صحيحة لدعمها ، حيث لا يوجد وثيقة توحي بتلك الأسبقية . إنها مصر العليا حيث الدليل المادي يشهد بالمراحل المتتالية للحضارة منذ العصر الحجري القديم وحتى الحاضر : حضارة دير تاسا ، البدارية (حوالي 7471 ق.م) ، العمرية (حوالي 6500 ق.م) ، حضارات عصر ما قبل الأسرات . بالمقارنة بمصر العليا فإنه لا توجد آثار لتطور مستمر في الدلتا . إنّ التماثيل العاجية الصغيرة ذات الرؤوس المثلثية التي عثر عليها وتعود إلى حقبة تدعى (جرزة – حوالي 5500 ق.م) ، تماثل تلك التي عثر عليها في (كريت) في عصر (مينا) . إن هذه التماثيل الصغيرة لا يمكن أن تكون سابقة لحقبة الهيراكونبوليس الذين نسبهم (كابارت) إلى العصر العمري . يزعم أنّ الحضارة الجرزية كانت قائمة في مصر العليا بحسب الترتيب الزمني للآثار ما بين الرقمين (39) و (79) :
(( على أي حال فإن مصر السفلى أصبحت أخيرا مركزا لحضارة راقية ذات تشابهات آسيوية مؤكدة ، تتعارض مع التشابهات الأفريقية وقد هيمنت هذه الحضارة بشكل مطلق على مصر العليا كذلك . في الواقع فإنها كانت معروفة فقط من الإقليم الأخير ، مع أن وجودها في الشمال ربما أستنتج بشكل مؤكد . في مصر العليا لم يكن هناك إنقطاع حاد بين الحضارة العمرية والحضارة الجزرية ، إذ أن الأخيرة تغلغلت تدريجيا وأمتزجت مع العناصر القديمة لتلك الحضارة بل وهيمنت عليها . إن الأنواع الجديدة من المزهريات والأسلحة ذات الزخارف قد أدخلت في عدد كبير من الأدوات بل وحلت محل القديم منها بشكل كلي . لقد جرى الإتفاق بشكل عام على أنّ العناصر الجديدة التي تميّز ثقافة مصر العليا في المرحلة الوسيطة لما قبل عصر الأسرات لم يكن مضّمن فيها الشمال والشمال الشرقي ومن المؤكد تقريبا أنّ مبتدعي هذه الإبتكارات قد عاشوا في تواصل مع مصر العليا لفترة طويلة قبل الفترة الزمنية للأثر رقم (39) ، أي أن تلك المزهريات المزخرفة وجدت طريقها إلى مصر العليا قبل ذلك التاريخ )).
إنّ هذه الحضارة الجرزية التي قيل أنها أسيوية قد عرفت فقط من خلال تلك الآثار التي عثر عليها في مصر العليا . كم يبدو الأمر متناقضا إفتراض أن الحضارة نشأت في مصر السفلى ! (علاوة على ذلك فإنّ هذه الآثار مطابقة لتلك العائدة للحضارة العمرية التي تطورت من الحضارة البدارية والتي هي بدورها نتاج لحضارة دير تاسا) . بالرغم من ذلك ومع أنه لم يتم العثور على أي آثار للحضارة الجزرية ومع أنها عرفت فقط من خلال آثار مصر العليا فإن (وجودها في الشمال يستنتج منه وبثقة) وجودها في الدلتا . بتعابير أكثر وضوحا فإن ذلك يعادل القول ( إن كل ما وجدته هنا في مصر العليا أتى من حيث لم أجد شيئا – مصر السفلى – مع أنني لا أستطيع أن أثبت ذلك وليس لدي أمل في أن أرى مايثبت ذلك فإنني أحكم بهذا) . لقد زعم أن الدلتا إقليم رطب وبالتالي هناك صعوبة في حفظ الوثائق فإذا كانت الرطوبة لم تساعد في حفظ الوثائق ، ألم يكن هناك أي أثر لها أو حتى كتل مشوهة الشكل تحللت كيميائيا بفعل الرطوبة . في الواقع فإن تربة مصر السفلى قد أنهكت بفعل كافة الأعمال التي أسندت إليها مثل أعمال الخشب المتعلقة بالمملكة القديمة بعد الأسرة الحاكمة الثالثة ، فإذا لم تقدم الدلتا المزيد من الوثائق القديمة فإن علينا أن نفترض منطقيا أنها لم تحتوي على أيّ منها قط . إن كانت الدلتا قد لعبت فعلا دورا يحاولون جاهدين أن ينسبوا الحضارة المصرية إليها ، فإنه من الممكن التعرف على ذلك بطرق أخرى . يقال أن تاريخ مصر العليا سوف تظهر به ثغرات إذا ما تم تناوله مستقلا عن الدلتا مع أن تلك ليست القضية . إن تاريخ مصر العليا (أي التاريخ المصري) لا يقدم مصاعب لا يمكن تجاوزها ، فالتفسير التاريخي لا يصبح بعيد الإحتمال إلا حينما يكابر أحد وبدون وجود دليل تاريخي بأن ينسب إلى الدلتا دورا لم تلعبه أبدا . إن هذه هي الحالة كما تبدو مع (موريه) حينما كتب :
(( إننا لا نعلم شيئا عن تاريخ تلك الممالك القديمة ، غير أن الروايات تزعم بأن ملوك الشمال كانت لهم الهيمنة على باقي مصر في بداية العصور . لا يوجد نص يمكننا من تحديد منطقة نفوذهم ، غير أن ديانة الفترة الأخيرة تشير إلى أن هذا النفوذ كان عميقا . إن ذلك تفسره الخصوبة الإستثنائية للدلتا ، فحالما أصبحت الدلتا مهيئة للزراعة بإقامة السدود وقنوات الري والصرف ، فإن ذلك وسّع من رقعة الأرض التي كان يعاد تجديدها بشكل متكرر بفضل غرين النيل ، مما جعلها تربة أكثر إنتاجية وقابلية لنمو السلالات الزراعية المثمرة من الوادي الضيق لمصر العليا . لقد كانت النتيجة أن تحقق إزدهار مادي مبكر وتطور فكري ، تسنده الحقيقة التي مفادها أن آلهة الدلتا العظمى فرضت سلطتها لاحقا على باقي مصر . لقد كان إله الشمس (رع) أول من عبد في هليوبوليس ، أما (أوزيريس) ، (إيزيس) ، (حورس) فقد كانوا آلهة (بوزيريس) ، (منيديس) ، (بوتو) . إن التوسع في عبادة الآلهة على إمتداد كامل الوادي في تلك العصور المبكرة جدا ، يشير إلى تأثير سياسي مماثل من الدلتا )) .
حتى هذه النقطة فإن (موريه) كان متفقا مع (ماسبيرو) ، غير أنه إختلف معه في الطريق الذي سلكه الـ (شمسو – حور وهم أسلاف مينا) حتى يكون منسجما في دفاعة عن هيمنة الدلتا . في كتابه (النيل والحضارة المصرية – ص 118) وخلافا لما ذهب إليه (ماسبيرو) من أن (الشمسو – حور) هم (حدادون زنوج) قهروا سكان الوادي وأقاموا محلات لطرق الحديد حتى الدلتا ، فإن (موريه) يزعم أن الـ (شمسو – حور) قدموا من الدلتا . لقد أورد (موريه) بأن هناك تحولا كبيرا قد حدث في الحقبة التي سبقت (مينا) ، تميزت فيه بظهور الذهب ، النحاس والكتابة على وجه الخصوص . حيث أنّ هذا التحول كان واضحا في مصر فإن (موريه) يطرح السؤال التالي : ( إذا لم تكن مصر العليا قد تأثرت بالسفلى فبمن تكون تأثرت .. ؟ ) إنه يستشهد بإبتداع التقويم كما هو أمر واقع الإحتمال في إقليم مفيس وفي مكان أخر زعم (موريه) أن الآلهة المصرية (اوزيريس) ، (إيزيس) ، (حورس) قد نشأوا من الدلتا . لذا فإنه يستخدم هذه الحجة التي يراها صحيحة في التركيز على هذه النقطة :
(( هناك حقيقة أخرى سوف تدعم هذه الحجة . على إمتداد العصور القديمة كانت أيام السنة الكبيسة مخصصة لتلك الآلهة التي ولدت في الخمسة ايام الإضافية التي وضعت في بداية السنة (مقارنة : بلوتارك). إن النصوص المصرية والإغريقية تتفق في تسمية هذه الآلهة : أوزيريس ، أيزيس ، سيت ، نيفثيس ، حورس . تبدأ السنة بظهور متزامن لسوثيس ، رع ، النيل ، فيما يختار أوزيريس آله النيل والخضرة راعيا . يعتقد أن (أوزيريس) قد ولد في أول يوم من الأيام الخمسة أيام الإضافية . يمكننا أن نستنتج أن عبادة (أوزيريس) كانت مؤثرة في (هليوبوليس) حتى في عصر علمائها الفلكيين الذين إبتدعوا التقويم . عليه : فإنه ومع التقويم فرضت مصر السفلى سلطة (أوزيريس) و (رع) ، سطوة النيل والشمس على مصر السفلى ، الدلتا المتحضرة التي قهرت مصر العليا )) .
حينما يجد المرء مثل هذه الأفكار الهامة التي جرى التعبير عنها بواسطة مرجع ، فإنه يميل للإعتقاد بأنه جرى تأكيدها بواسطة وثائق حاسمة ، غير أن ذلك ليس صحيحا حينما نستقصي تلك الإفادات بشكل كامل . لقد طرح المؤلف المنشأ الشمالي للآلهة المصرية كي تنسجم مع التراث المصري . بمعنى أخر فأن أوزيريس ، إيزيس ، حورس ، كلهم آلهة الدلتا . من هنا إستنتج النتائج الهامة التي ذكرت أعلاه ، ذات الصلة بإبتداع التقويم ومنشأ الحضارة المصرية عموما . ما هو بدقة ما تعلمناه من التراث المصري فإذا ما أعتبرناه من أكثر الحقب عراقة فإلى حقبة نشير ؟ إن هذه التراث الذي جرى التعبير عنه في (كتاب الموتى) الذي عقيدته سابقة لأي تاريخ مكتوب لمصر ، يعرّفنا بأن (إيزيس) إمرأة سوداء وأن (أوزيريس) رجل زنجي أي (أونو) . لذا فإن إسمه في النصوص المصرية القديمة مصحوب بتوصيف عرقي يشير إلى أصله النوبي . لقد عرفنا ذلك عن طريق (أميلينو) . علاوة على ذلك فقد أخبرنا (أميلينو) بأنه لا يوجد نص مصري يورد أن (أوزيريس) و (إيزيس) قد ولدا في الدلتا . بناء على ذلك فإن (موريه) حينما يؤكد ذلك فإنه لا يستند على أي وثيقة . من الممكن أن نضيف بأن الأسطورة تحدد مكان ميلاد (أوزيريس) و (إيزيس) : أوزيريس ولد في (طيبه) وإيزيس ولدت في (دندره) . أحداث الأسطورة تقع كذلك في بلاد النوبة حيث المكان الأول الذي جرى فيه الصراع بين (سيت) و (حورس) . في رأي (أميلينو) فإن :
(( أجزاء الأسطورة التي تتصل بالدلتا قد جرى إضافتها بشكل واضح إلى النسخة الأصلية ، عدا مكوث مؤقت في (بوتو) . في رأيي فإنه مجرد تأويل لمنشأ إغريقي أو شبه إغريقي لتفسير تبني عبادة (أوزيريس) في بيبلوس أو بالأصح الأساطير التي تشابه بعض الآلهة المحلية . إضافة إلى ذلك فإن الوثائق المصرية لا تشير قط إلى نقطة واحدة من هذه . كذلك فإن رواية تابوت (أوزيريس) الذي جلبه النيل إلى البحر ، تبدو لي واحدة من تلك المستحيلات الجلية وأشك بشكل جدي في أن المصريين يقبلونها ، لأن الوثائق المصرية لم تذكرها أبدا . إن علينا إلا ننسى بإستثناء الأجزاء المتعلقة بالدلتا وآسيا الصغرى فإن أسطورة (أوزيريس) قد توطدت بشكل راسخ قبل عصر (مينا) . من ثمّ فإنه من الصعب فهم كيف أن أسطورة ولدت في الدلتا ، تمركزت تقريبا في مصر العليا ، لا توجد فيها إشارات ظاهرة للدلتا ، عدا في فقرات معينة تمت إضافتها لاحقا بشكل واضح . بالمثل إذا ما ولد (أوزيريس) و (إيزيس) في الدلتا فإنه سيكون من الصعب فهم العثور على جميع آثارهما في مصر العليا . لقد حصلت مدن مصر العليا على كامل هيكل (أوزيريس) ، فيما لم يخلف شيئا من ذلك في مدن مصر السفلى . عند هذه النقطة يشير (أميلينو) إلى مؤلف بروقش (القاموس الجغرافي) . إن التنافس بين المدن على إنتساب الآثار إليها قد أوقع إرباكا كبيرا ، لأنه كان من الصعب بداية تحديد أيّ من المدن تمتلك تلك الآثار ، كما أن هناك اليوم مدن عديدة أخرى تزعم ذلك . يرى (أميلينو) أن التنافس بين مدن مصر العليا والسفلى يصب في صالح مصر العليا (أعتقد أن هناك حقيقة واحدة تميل الموازين لصالح مصر العليا : إنتساب رأس أوزيريس مصر العليا ، إلى مدينة أبيدوس)) .
إن هذه الحقيقة ربما لم تكن هامة إذا لم يكتشف (أميلينو) مقبرة أوزيريس ورأس السلف المقدس في جرة . إننا قد نشك في صدقية ذلك الإكتشاف ، بالرغم من أن أميلينو قال : (لقد وجدت بنفسي مدافن أخرى أثناء التنقيبات الأولية والتي بلغت ذروتها في المقابر الملكية قبل الكشف عن المقبرة حيث جمجة الآله التي وجدتها محفوظة) ، ثم أشار إلى ورق البردي في متحف (ليد) مستشهدا بـ (بروقش) . إنه يذكر بشكل صريح أن رأس (أوزيريس) كان محفوظا في (أبيدوس) ، حيث جرى تحديد المكان على ورق البردي بإسم يشير إلى (مقابر أبيدوس) . لقد سعى (أميلينو) إلى التأكد من صدقية الوثيقة من (يوجين ريفيللو) والتي كتبت بالخط الديموطيقي . لقد تلقى تأكيدا بأن رأس (أوزيريس) يقع في (أوبيدس) ، كما أن تأكيدا أخر جاء في النص الجغرافي الوارد في كتاب بروقش (القاموس) عام 1898 ( لقد ذكر أن رأس الآله كان في رفات موتى أبيدوس) .
يلاحظ (أميلينو) أنه (( النص قد إختفى منذ أن أخذ (بروقش) نسخة منه ، فإذا كان على المرء أن يصدق أن النشر عن معبد إدفو قد بدأ في مذكرات بعثة القاهرة ، فإنه سيكون من الملفت للنظر التحقق عما إذا كان ذلك النقش المكتوب قد إختفى تماما )) . أخيرا يورد (أميلينو) حقيقة هامة أخرى وهي : أنه في ( نصوص الإهرامات) فإن عرش (أوزيريس) قد وصفه أميلينو تماما مثلما وجده في السرير الجنائزي الموضوع في المقبرة في (أبيدوس) . إن (أميلينو) يتعجب عن سبب إمتلاك مدن مصر العليا أكثر الأجزاء أهمية من جسد أوزيريس ، إن كان قد ولد في الدلتا ، حكم في الدلتا ، مات في الدلتا وكان إلها محليا في مقاطعة صغيرة في الدلتا ، فهو لا يرى سببا لذلك . إن كان (أميلينو) إكتشف حقيقة المقبرة أم لا وأن رأس أوزيريس غير ذي أهمية ، فإن الحقيقة الجوهرية هي أن النصوص ذكرت أن هذه قد عثر عليها في (أبيدوس) .
عليه وخلافا لتأكيد (موريه) فإن التراث المصري القديم المعتمد والمكتوب في (نصوص الإهرامات) و (كتاب الموتي) يفيدنا وبتعابير صريحة أنّ الآلهه المصرية تنتسب إلى العرق الأسود وأنها ظهرت في الجنوب . علاوة على ذلك فإن أسطورة (إيزيس) و (أوزيريس) تشير إلى ميزة ذات مسحة ثقافية لأفريقيا السـوداء ألا وهي عبادة الأسلاف التي هي أساس الحياة الدينية الزنجية وأساس الحياة الدينية المصرية مثلما أورد (أميلينو) . لقد أصبح كل سلف ميت هدفا للعبادة . لقد أثبت الأسلاف الأكثر قدما فعالية تعاليمهم في مضمار الحياة الإجتماعية ولنقل المجال الحضاري ، مما جعلهم يتحولون تدريجيا ليصبحوا آلهة فعلية ( الأسلاف الأسطوريون أشار إليهم ( ليفي – برول ) . لقد جرى فصل أؤلئك الأسلاف تماما عن مصاف البشر وإن كان ذلك لا يعني أنهم لم يعيشوا أبدا . بتحويلهم إلى آلهة فإنهم قد وضعوا في مستوى مختلف عن ذلك المستوى العائد للبطل الإغريقي . إن ذلك ما جعل (هيرودتس) يعتقد أن المصريين ليس لديهم أبطال .
إنه من الواضح أن حجة (موريه) المتعلقة بإبتداع التقويم في (مفيس) هي حجة منحرفة عند إخضاعها للبحث الدقيق على نحو خطير . يحدد المؤلف بأنه في (مفيس) فقط يمكن ملاحظة الطلوع الشمسي لـ (الشعرى) . لقد توصل إلى أنه وبناء على دورة ذلك النجم (الشعرى اليمانية) الذي يتزامن طلوعه مع طلوع الشمس كل 1.461 سنة ، فإن التقويم المصري قد أبتدع في (مفيس) ، غير أنّ التقويم كان مستخدما قبل 4.236 سنة وهو بالتأكيد أقدم تاريخ معلوم في تاريخ البشرية . إضافة إلى ذلك فإن (هيرودتس) يخبرنا أن (مفيس) أنشأها (مينا) بعد أن حوّل مجرى النهر وجعل مصر السفلى التي كانت مليئة بالوحل منطقة قابلة للسكن وبالإستشهاد - بالصفحة 113 - فإننا نجد أن مينا هو أول ملك غيّر مجرى النهر وجعل مجراه أرضا يابسة ، قاصدا بذلك في المقام الأول بناء مدينة يطلق عليها حاليا مفيس . بناء عليه فإن (مفيس) كانت تحت الماء قبل قدوم (مينا) ، أي أن تلك المدينة لم تكن موجودة عند إبتداع التقويم .
في المقابل إن كان بالإمكان ملاحظة الطلوع الشمسي لـ (الشعرى) من إقليم (هوليوبوليس) وليس من إقليم (مفيس) فإن ذلك قد يساعد مؤيدي أسبقية الدلتا في فرضيتهم ، كون (هوليوبوليس) هي مدينة (رع) التي يزعم نفس هؤلاء المنظرين مولد علم الفلك والتنجيم فيها . مع ذلك فإنه يبدو أن (هوليوبوليس) أو (أون الشمالية) قد أسسها الـ (أونو) التي تحمل إسمهم . هنالك تعليقات مماثلة طرحت عن الحجة التي مفادها أنّ مصر قد تحضّرت بفعل الغزاة القادمين من الشمال . في اللغة المصرية كان الغرب يشار إليه باليمين والشرق باليسار ومن هذه الحقيقة يمكن للمرء أن يستنتج دليلا على التطلع إلى الجنوب . بداية هناك عدة طرق للإشارة إلى الشرق والغرب في اللغة المصرية . علاوة على ذلك فإن الفن المقدس قاد إلى تقسيم السماء إلى أقسام من أجل الرصد . نتيجة لذلك فإن توجه خاصا جعل نقطة رئيسية معلومة تتطابق مع اليمين أو الشمال . لقد كان ذلك مطبقا في مصر وعلى إمتداد المتوسط الإيجي (بحر إيجه) الذي وقع تحت التأثير المصري خاصة في أتروريا . لقد كان تفسير ( إدوارد نافيل ) أكثر تنويرا :
(( من أي بلد جاء الفاتحون ؟ يبدو ليّ وبلا شك أنهم جاءوا من الجنوب . إذا راجعنا الأسطورة كما حفظت في سلسلة من الرسومات الضخمة التي زينت واحدا من دهاليز معبد إدفو وتعود إلى عهد البطالسة ، سوف نرى أن الإله (هارميشي) قد كانت له السيادة في بلاد النوبة جنوب مصر . لقد بقي هناك مع إبنه حورس الآله المحارب الذي أخضع كامل البلاد إليه ، حتى وصل مدينة (زار) التي تعرف اليوم بإسم (القنطرة) ، حيث أقيمت قلعة في أقصى الفرع الشرقي للنيل وهو ما يعرف بالفرع البيلوزي والتي شكلت حاجزا أمام أي قدوم من جهة شبه جزيرة سيناء وفلسطين . في المدن المصرية الرئيسية كان المنتصرون يحكمون كيفما إتفق مع الديانة . في العديد من المناطق إستقر رفاق حورس حيث كانوا يسمون الحدادون . لذا فقد إرتبط إدخال العمل المعدني مع الإنتصار في الأسطورة . إنّ هذه الأسطورة التي يجب أن تنسب إلى إرث عريق يبدو ليّ جديرة بالإهتمام . إنها تنسجم تماما مع ما أخبرنا به المؤرخون الأغاريق ، تحديدا من أن مصر كانت مستعمرة لإثيوبيا . بالتالي فإن المصريين ، على الأقل أؤلئك الذين أصبحوا مصريين فراعنة ، ربما إتبعوا مجرى النهر العظيم . إن ذلك تؤيده سمات معينة من ديانتهم أو أعرافهم ، فالمصري يحدد وجهته بالنظر إلى الجنوب ، حيث الغرب على اليمين والشرق على اليسار ، غير أن ذلك لا يعني أنه يريد التوجه نحو الجنوب ، بل الأحرى أنه يتجه إلى بلده الأصل إذ يتطلع إلى الإتجاه الذي جاء منه حيث يتوقع المدد ، فمن هناك جاءت القوى الفاتحة ومن هناك أيضا تأتي مياه النيل الخيرة حاملة الخصوبة والثراء . بجانب ذلك فقد كانت للجنوب دائما الأسبقية على الشمال ، فكلمة ملك عنت أولا ملك مصر العليا وقد أظهرت لنا آلهتهم الطريق الذي سلكوه . لقد قادهم الإله (أوبواتو) الذي كان يسير أمامهم في شكل إبن آوى أو كلب يدلهم على الطريق )) .
في التحليل النهائي ولمواجهة محاولات تقديم الدلتا كونها أكثر ملائمة لإزدهار الحضارة من مصر العليا ، فمن المهم الإجابة عما يعرف حقيقة عن الدلتا . لقد عرف بشكل عام أن الدلتا كانت موطنا دائما لآفة الطاعون في الشرق الأدنى وبأنها نقطة إنطلاق لكل وبائيات الطاعون التي عصفت بتلك المنطقة على إمتداد التاريخ . من دون مبالغة يمكننا أن نمضي بعيدا بالقول بأن الدلتا لم تكن موجودة حتى في عصر مينا ، لأن (مفيس) كانت على حافة البحر . لقد كانت مصر السفلى في ذلك الوقت غير صحية بالكامل وغير قابلة للسكن تقريبا ، غير أنه بعد الأعمال المدنية التي بدأها (مينا) أصبحت أقل خطورة من الناحية الصحية . بالنسبة للدلتا الغربية يمكن للمرء أن يتعجب عما كان عليه الوضع قبل (مينا) ، لأننا نعرف أن مجرى النهر لم يكن هو ذاته مثلما هو اليوم وأنّ الفرعون الأول هو الذي منحه الإتجاه الحالي من خلال بناء السدود والردم بالتراب . لقد كان النهر ينساب في السابق في إتجاه الغرب :
(( كان النهر ينساب بالكامل على إمتداد الحافة الرملية للتلال التي كانت تحد مصر من جانب ليبيا . بردمه المنحنى الذي يشكل حوالي مئة ميل جنوب (مفيس) ، فإن (مينا) جعل النهر القديم جافا ، بينما حفر مجرى جديد للجريان بين سلسلتين من التلال . حتى اليوم فإن المنعطف الذي يشكله النيل عند ذلك الموضع ، حيث أجبر فيه على التدفق في مجرى جديد ، يلقي إهتماما عظيما من الفرس ، حيث كان يتم تحصينه كل عام ، لأن النهر إذا فاض في ذلك الموضع وأندفع فوق المتراس ، فإنه سوف يشكل خطرا على (مفيس) بغمرها بمياه الفيضان تماما )) . إذا ما إنهارت السدود فإن (مفيس) سوف تغرق بمياه النيل . لقد كانت عاصمة الملك المصري الأول في (طيبه) في الجنوب ، بينما أنشئت (مفيس) لأغراض عسكرية بالأساس . لقد كانت موضعا حصينا عند مفترق الطرق التي يتسلل منها الرعاة الآسيويون من الشرق والبدو من الغرب الذين كان المصريون يسمونهم (ريبو) أو (ليبو) ومن بعد حملوا إسم ليبيين (الأسرة الحاكمة الثامنة عشرة) . لأكثر من مرة حاول هؤلاء البرابرة إختراق مصر بالقوة طمعا في ثروتها ، غير أنهم في كل مرة تقريبا كانوا يدحرون ويدفعون إلى ما وراء الحدود بعد قتال عنيف . إنّ طبيعة هذه التحالفات بين شعوب الشمال والشرق في منطقة الدلتا ، تبرر إنشاء (مفيس) كقلعة متقدمة . بالرغم من ذلك فإن علينا أن لا نرتبك حيال السلالات العرقية التي كانت تواجه بعضها البعض هناك . كما تشير هذه الفقرة من (موريه) فإن تحالفا حقيقيا للبيض نشأ ضد العرق الزنجي في مصر :
(( في شهر أبريل من عام 1229 ق.م علم (ميرنبتاح) في (مفيس) أن (ميريري) ملك الليبيين ، قادم من أرض (تيهينو) ومعه رماة السهام وتحالف لشعوب الشمال مؤلف من الـ (ساردان) ، (سيكول) ، (أخيين) ، (ليسيين) ، (أتروسك) ، يمثلون النخب المحاربة لكل بلد . كان هدف الملك الليبي مهاجمة الجبهة الغربية لمصر عند سهول (بيرير) . كان الخطر عصيبا لأن فلسطين نفسها كانت متأثرة بالقلاقل . في الواقع يبدو أن الحيثيين قد تورطوا في تلك الإضطرابات ، مع أنّ (ميرنبتاح) كان يساعدهم فيرسل إليهم في أوقات الجفاف القمح على سفنه لمساعدة بلاد (خاتي) على البقاء )) . بعد معركة عنيفة إستمرت ست ساعات إستطاع المصريون أن يدحروا بشكل كامل ذلك التحالف من الحشود البربرية . أما الناجون فقد علقت تلك المعركة بذاكرتهم فترة طويلة قبل أن تتناقلها الأجيال بعد ذلك : (( لقد فر (ميريري) بأقصى سرعة ، تاركا وراءه سلاحه ، كنوزه ونسائه ونقل الرسام المصور من ضحايا المذبحة 6.359 ليبي ، 222 من السيكول ، 742 من الأتروسك ، والألأف من الساردان والأخيين وجرى الإستيلاء على غنائم كثيرة من أرض المعركة من بينها أكثر من 9.000 سيف ومن قطع الدروع . لقد نقش (ميرنبتاح) أنشودة النصر على جدران معبده الجنائزي في (طيبه) ، حيث وصف الذعر الذي حلّ بين أعدائه ، فقد قال الليبيون الشباب عن تلك الإنتصارات بأنهم لم تمر عليهم مثل تلك الأيام منذ (رع) ، بينما يقول الرجل المسن لإبنه (ياللحسرة ! ليبيا العاجزة) . لقد قضي على الـ (تيهينو) في سنة واحدة ، فيما أجبرت الأقاليم التي خارج مصر على إبداء الطاعة . دمر الـ (تيهينو) ، هادنت (خاتي) ، نهبت (كنعان) ، سلبت (عسقلان) ، أحتلت (جاذر) ، دمرت (ينوعام) ، خربت إسرائيل ولم تعد لها محاصيل ، فيما أصبحت (خارو) مثل أرملة بدون سند قبالة مصر . لقد تم توحيد كل الدول وأذعنت )) .
ما أهم من يلاحظ في هذا الإقتباس هو أن نصر (ميرنبتاح) قد تم في (مفيس) ، فيما جرى الإجتفاء به في (طيبه) حيث المعبد الجنائزي لـ (ميرنبتاح) . إنّ ذلك يؤيد ما قيل سابقا وهي : أن الفرعون (ميرنبتاح) قد أقام في (مفيس) بسبب الضرورة العسكرية ، غير أنه ومثل كل الملوك الفراعنة تقريبا ، كان عليه أن يدفن في (طيبه) ، فقد جرت العادة على أنه حتى إذا مات الفرعون في مفيس بمصر السفلى ، تتم نقل جثته إلى مصر السفلى حيث يدفن في مدن طيبه المقدسة : أبيدوس ، طيبه ، الكرنك . في تلك المدن كانت للفراعنة مدافنهم بجوار مدافن أسلافهم ، حيث كانوا يرسلون إليهم القرابين حتى وإن أقاموا في (مفيس) . بعد الثورة التي أنهت المملكة القديمة حينما حصل الشعب على حظوة الموت الأوزيريسي أي إمكانية التمتع بالحياة الأبدية في السماء ، فإن كل الطبقات الإجتماعية دفنت بشكل رمزي في منطقة طيبه ، بعد إقامة مسلة بإسم الموتى . لذا فإن المنطقة المقدسة لكل المصريين بلا إستثناء ، كانت منطقة طيبه بلا إستثناء . إن ذلك كان سيكون بمثابة إنتهاك للحرمات بالنسبة للمصريين إذا ما كانت حضارتهم وتقاليدهم الدينية قد ولدت في الدلتا . في هذه الحالة فإنه يتعين أن تكون المدن المقدسة ، مدافن الأسلاف ، المدن الرئيسية للعبادة والحج في الدلتا .
لم يكن تحالف الشعوب من الشمال والشرق في عصر (ميرنبتاح) سوى فصل من تاريخ مصر . على إمتداد ذلك التاريخ كانت هناك حروب مماثلة في ذات الإقليم بشكل أكثر أو أقل أهمية ، غير أن ما هو إستثناء خلال الفترة الأدني هو أنّ زنوج وادي النيل كانت لهم على الدوام اليد العليا على البرابرة . للتدليل على ذلك يمكن الإستشهاد بالعديد من الرسومات الصخرية التي تصور الأسرى من هضاب سيناء حتى معابد هابو وطيبه ، بمعنى أخر منذ عهد ما قبل الأسرات حتى الأسرة الحاكمة التاسعة عشرة . بشهادة الليبيين أنفسهم وإذا كان علينا أن نصدق النصوص المصرية فإنهم لم يحققوا نصرا منذ بداية العصور أي منذ أيام الإله (رع) . في المقابل لا توجد حقيقة ، دليل ، أو نص يدحض هذه الإفادة ، فقد كتب (موريه) نفسه الآتي : (( على خلفية خصوبة تربة وادي النيل بدأ هؤلاء الليبيون وسكان الكهوف متلهفين كونهم معدمين ونهابين ، يتحينون دائما الفرص للإغارة على الفلاحين المسالمين والمنخرطين في مهام الزراعة . في الواقع لم يكونوا مصدر خطر حقيقي بالنسبة للمصريين ، إذ لم تكن لديهم الدواب السريعة القادرة على حمل الأحمال ، فالحمار وهو حيوانهم الوحيد لا يستطيع أن يعدو سريعا أو أن يحمل أحمالا ثقيلة ، فيما لم يعرف الجمل يومها الذي أصبح لاحقا وسيلة للتنقل لقبائل الصحراء في عصر الإسلام . مواجهة بمثل هؤلاء البدو فقد ظلت مصر متيقظة لهم ومبقية على عملياتها العسكرية ، موظفة في ذلك الليبيين أنفسهم . لقد دخلت العديد من القبائل في خدمة مصر كمرتزقة مثل قبيلة المشاواشا . بذات الطريقة جندت مصر قوات ممتازة من (المازوي) . لقد وجد الفرعون ذلك مناسبا لتأمين نفسه ضد السرقة بدفع المكافأت لقطاع الطرق هؤلاء ، في شكل أجور . فقط في الأيام الأخيرة لإمبراطورية طيبه شكل الليبيون خطرا محدقا لمصر حينما تجمعوا في شكل إتحاد وساروا في تحرك للشعوب المهاجرة ، وقتها لم تكن مصر تملك الوسائل المتاحة لوقف تلك الهجرة )) .
إن هذه الإفادة تلخص لنا كل شيء عن الليبيين بشكل واقعي وملموس . التاريخ يفيدنا بأنهم كانوا نهابين نصف جائعين ، عاشوا على تخوم مصر ، في الجزء الغربي من الدلتا ، عملوا كمرتزقة وأستقروا في الدلتا أثناء العصر المتأخر. كانوا بيضا عدا الـ (تيهنو) وقد قاوموا التحول إلى التحضر في الوقت الذي كان فيه العالم الأسود متحضرا سلفا . ذلك ما أخبرتنا به الوثائق التاريخية عن الليبيين بجانب التوزيع الجغرافي في الساحل الشمالي لأفريقيا كما أورد ذلك (هيرودتس) . ربما يجعلنا ذلك نتعجب عن أي نوع من التزوير هذا الذي قاد إلى نسب نشأة الحضارة المصرية إلى هذه الشعوب المختلفة عن المصريين في كل وجه ، وكتتويج لهذا التناقض فإنهم قدموا المصريين على أنهم أبناء العمومة المتوحشين الأقل ثقاقة . لقد قدم هؤلاء الليبيبون إلى الدلتا كمرتزقة ومنحوا قطعا من الأراضي من قبل الفرعون ويومئذ تشبعت مصر بالسكان الأجانب ومن هذا التمازج جاءت لون البشرة الفاتحة نسبيا للأقباط . لذا فإن الدلتا لم يرد ذكرها في التاريخ المصري إلا في العصر المتأخر . إن مصر لم تكن أبدا قوة بحرية وذلك يمكن أن تفسره الحقيقة التي مفادها أن حضارتها نشأت في داخل القارة بخلاف حضارات الشعوب الأخرى الواقعة في محيط البحر المتوسط . وفقا لما كتبه (بلوتارك) في (إيزيس وأوزيريس) فإن المصريين إعتبروا البحر (إفرازا فاسدا) وهذا التصور يتعارض مع فكرة المنشأ البحري للحضارة .
[/rtl]
salih sam
لـــواء
الـبلد : المهنة : College studentالمزاج : اللهم سلم السودان و اهل السودان التسجيل : 09/05/2011عدد المساهمات : 7924معدل النشاط : 6296التقييم : 271الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 17:38
[rtl](6)[/rtl] [rtl]الفصل الخامس[/rtl] [rtl]هل يمكن أن تكون الحضارة المصرية ذات منشأ آسيوي ؟[/rtl]
[rtl] هنا ومثلما في كل ما سبق ، من المهم التمييز بين ما أستنتج من الفحص الدقيق للوثائق التاريخية وما زعم به خلاف تلك الوثائق ، أي ماهو متعارض مع إفاداتها . لإسناد الحضارة المصرية إلى منشأ أسيوي أو أي منشأ أجنبي أيّا كان ، فإن علينا إثبات الوجود السابق لمهد الحضارة خارج مصر . في المقابل فإننا لا نستطيع الإفراط في التشديد على الحقيقة التي مفادها أن هذا الشرط الضروري قد أستوفى . كتب (موريه) : (( لم يحدث أن تعاطفت الظروف الطبيعية مع مجتمع إنساني مثل تلك التي تعاطفت مع مصر، مثلما لم نجد صنعة لها نظير من حيث الكمال الفني المتعلق بصنعة النقش الحجري في أي مكان أخر ، وبعيدا عن أي مراحل لأي عصور غير مؤكدة في فلسطين فإنه لا يوجد أي أثر لإنسان في سوريا وبلاد النهرين قبل عام 4.000 ق.م . لذا فمن الحكمة أن ينسب هذا التطور المبكر إلى عبقرية سكان مصرالأوائل وإلى الظروف الإستثنائية لوادي النيل . لا شيء يثبت أن هذه الحضارة عائدة لتوغلات غرباء هم أكثر حضارة . إن وجود مثل ذلك الزعم أو على الأقل وجود حضارتهم في حاجة إلى إثبات )) .
إن هذه الملاحظات التي أبداها (موريه) تعذر دحضها حتى اليوم . لقد لمح المؤلف إلى التاريخ 4241 ق.م ( وهو تاريخ جرى تصحيحه على نحو طفيف إلى 4236 ق.م ) حينما إستخدم التقويم في مصر بشكل مؤكد . لذا فإننا وبيقين حسابي نواجه في مصر أكثر تواريخ الإنسانية عراقة . ماذا وجدنا في بلاد ما بين النهرين ؟ لا شيء يمكن تحديد تاريخه بشكل مؤكد . لقد كانت مساكن بلاد ما بين النهرين لا تزال مبنية بالطوب المصنوع من الطين والمجفف بأشعة الشمس والذي سرعان مايتحول إلى كتلة من الطين عند هطول الأمطار . إن إهرامات مصر ، معابدها ، مسلاتها ووفرة أعمدتها في الأقصر والكرنك ، طرق كباشها ، مدرجات (مينون) ، نقوشها الصخرية ، معابدها التي تحت الأرض ذات الأعمدة القائمة على النمط الدوري ( دير البحري) في طيبه ، هو واقع أثري لا يزال ملموسا حتى اليوم ودليل تاريخي لا يمكن دحضه . في المقابل ماذا أنتجت إيران (عيلام) وبلاد مابين النهرين قبل القرن الثامن (حقبة الآشوريين) ؟ فقط إستحكامات من الطين عديمة الشكل . هذه الإستحكامات كانت تنبيء عن حطام معابد وأبراج مهدمة يؤمل في ترميمها ، لذا فإن عالم الآثار البريطاني / سيتون لويد يقوم بترميم الأجزاء الداخلية من المعبد البابلي الإفتراضي من الألفية الثانية أو الثالثة والذي صوّره (بريستيد) . يتولى المعهد الشرقي لجامعة شيكاغو تنفيذ حفريات هذه الترميمات. إن هذه الترميمات التي تتضمن ترميم برج (بابل) ، هي ترميمات جادة للحد البعيد بالنسبة لتاريخ البشرية نظرا للأوهام التي تثيرها . (إن بقايا هذه المباني الخاصة بالبرج البابلي ضعيفة جدا وهناك إختلاف كثير في الرأي فيما يتعلق بالشكل المناسب لترميمها ) .
في مصر تعتمد دراسة التاريخ بشكل كبير على هذه الوثائق المكتوبة مثل حجر باليرمو ، ألواح أبيدوس الملكية ، بردى تورين الملكية ، حوليات مانيتو فإلى هذه الوثائق المعتمدة ، علينا أن نضيف جميع الأدلة التي أوردها الكتاب القدامى ، من (هيرودتس) إلى (ديودورس) ، لا سيما (نصوص الإهرامات) ، (كتاب الموتى) وألاف النقوش التي على الجبال . في بلاد ما بين النهرين كان من غير المجدي البحث عن شيء أخر مماثل . إنّ ألواح الحروف المسمارية لم تحمل شيئا سوى حسابات التجار والإيصالات والفواتير المكتوبة . لقد صمت القدماء عن الحديث عن ثقافة بلاد ما بين النهرين المزعومة في حقبة ما قبل الكلدانيين . لقد إعتبر القدماء الكلدانيون طائفة من الكهنة الفلكيين المصريين الذين كانوا زنوجا . وفقا للمصريين فإن (ديودورس) أورد أن الكلدانيين كانوا جالية لكهنتهم ، جلبهم (بلوز) عن طريق نهر الفرات وقام بتنظيمهم على غرار الطائفة الأم وأستمرت هذه الجالية في العناية بمعرفة النجوم وهي المعرفة التي جلبوها معهم من أرضهم . لذا فإن كلمة (كلداني) شكلت الأصل للكلمة الإغريقية (فلكي). ربما كان برج (بابل) ذو الهرم المدرج المشابه لبرج (سقاره) والذي كان يعرف أيضا بـ (برس – نيمرود) و (معبد بعل) مرصدا فلكيا للكلدانيين . إنّ ذلك يتوافق مع (نمرود) إبن كوش ، حفيد (حام) جد السود بحسب ما ورد في الكتاب المقدس ، رمز القوة العالمية ( لقد كان صيادا قويا أمام الرب ) . لقد كان إبتداء مملكته (بابل) ، (آراك) و (آكاد) وجميعها كانت في أرض (سينار) ومن ذلك الإقليم خرج آشور . إذن أليس من الطبيعي أن نجد إهرامات (سقاره) المدرجة في بابل (مدينة بعل الكوشية) ، في ساحل العاج (في هيئة مقادير برونزية) وفي المكسيك حيث شهد المؤلفون المكسيكيون وعلماء الآثار أنفسهم بهجرة الزنوج إليها عبر الأطلسي ؟؟
بما أنّ آسيا الغربية كانت مهدا للحضارة الهندو – أوربية وإن كانت هذه الحضارة القابلة للمقارنة بالحضارة المصرية قد إزدهرت قبل حقبة الكلدانيين فلماذا لم ينقل إلينا القدماء الذين شكلوا فرعا من أؤلئك الهنود الأوربيين شيئا عنها وإن كان مبهما ؟ علما بأنهم الوحيدون الذين أمدونا بالشهادات المعززة عن الثقافة الزنجية المصرية . وفقا لتسلسل زمني قصير ، 3.200 سنة قبل الميلاد فإن مصركانت موحدة تحت ملك (مينا) ، أما في غربي آسيا فلم يحدث شيء مماثل ، فبدلا من أن نجد مملكة موحدة قوية ، لا نجد سوى مدنا فقط : سوسا ، أور ، لاقش ، ماري ، سومر، دلت عليها أحيانا مدافن مجهولة خلع عليها لقب (مدافن ملكية) دون أي دليل وهكذا رفع أشخاص مزيفون أو أعيان بلدة أو قرية إلى مرتبة الملوك . اليوم في كل قرية في السنغال يمكن أن تجد عائلة تزعم بأنها مؤسسة لتلك القرية . إن أكبر أفراد تلك العائلة سنا غالبا ما يكون راعي تلك القرية ذات الصلة ويجد إعتبارا مؤكدا من ساكنيها . بالرغم من ذلك فإنه سيكون من التناقض المنطقي منحه ولو بعد ألفي عام لقب الملك أو أن يكون متحدثا بإسم ملك كوكي جاد ، كوكي قاي ، كوكي ضهر وهكذا . عن أهمية ما يسمى بأ (المقابر الملكية) في أور يكتب (جورج كونتينو) التالي :
((بوجود الجبانات الملكية ربما نتعجب عما إذا كان الملوك مدفونين حقا وعما إذا كان علينا أن نربط تلك المدافن بعبادة الخصوبة . في الواقع إن ما يدهشنا أن ساكني تلك المدافن مجهولي الهوية . يعتقد إم. إس. سميث أن هذه المدافن ربما لا تحتوي على ملوك حقيقيين ولكن ممثلين في دراما مقدسة كانت تقدم في المهرجانات ، حيث يتم التضحية ببطل الرواية الرئيسي . أما مكتشف المدافن سير (ليونارد وولي) فإنه ينكر ذلك ، مشيرا وعلى ضوء الإكتشاف المثير للمدافن الملكية بأن السكوتيين قد طبقوا طقوسا مماثلة بعد ذلك بمدة طويلة . مع أن الحظ لم يحالفنا في أن نعثر على مقبرة سليمة في بلاد ما بين النهرين سوى المدافن الملكية في (أور) ومع أننا لم نواجه أبدا بوثائق واضحة عن إستمرارية الطقس الجنائزي الذي كشفت عنه الحفريات في أور ، إلا أن القليل من الألواح سلطت قليلا من الضوء على وجود ضعيف نوعا ما لتلك الممارسة . هناك رسالة يعود تاريخها إلى الحقبة الآشورية في ظل السرجونيين ، تفيدنا بأن إبن حاكم آكاد وأماكن أخرى قد لاقى مصيره مثل زوجته وأنهما دفنا معا )) . إنه لمن المؤسف أن يعود تاريخ تلك الوثائق المبهمة والمتاحة إلى عهد متأخر (القرن الثامن قبل الميلاد) وإنه ليس أقل أسفا أن تقفز إلى الذهن وبشكل طبيعي المقارنة مع عادات السكوتيين التي وصفها (هيرودتس) في القرن الخامس . في الواقع وعند الإشارة إلى نفس الأوصاف التي إقتبسها دكتور / كونتينو (1556) فإننا نتحقق من أنه من غير الممكن أن يكون هناك شعب أكثر وحشية وهمجية من السيكوتيين . بناء على ذلك فإننا نجد أنفسنا بعيدين عن آثار حضارة يمكن الزعم بأنها أم الحضارة المصرية . إن تعبير (مبتدع) الذي ينطبق على السير/ ليونارد وولي لإكتشافه تلك المدافن ، يثبت أن كلمة (ملكية) لا يمكن تبريرها عدا كونها فرضية تحت الدراسة . في المقابل فإن أكثر ملوك (عيلام) كانوا سودا دون أدنى ريب ، تشهد بذلك الآثار التي نبشها (ديولافو) :
(( إن الكثير من العجائب الأخرى في الطريق للكشف عنها بينما نتنقل من عجيبة مدهشة لأخرى . عند هدم جدار ساساني جرى تشييده بأكثر المواد قدما ومتاحة محليا ، عثر على آثار يعود تاريخها إلى العهد العيلامي من تاريخ سوزا ، بكلمات أخرى : هي سابقة للتاريخ الذي إستولى فيه آشوربانيبال على هذه القلعة . لكن علينا هنا أن نتيح المساحة لـ (ديولافو) : ((عند إزاحة المدفنة الواقعة عبر الجدار المصفوف بالطوب والذي هو جزء من تحصينات البوابة العيلامية ، كشف العمال عن جرة جنائزية . كانت الجرة داخل غطاء بنائي مؤلف من آجر مطلي . جاءت هذه القراميد من لوح يصّور شخصية مهيبة ، ترتدي ثوبا أخضرا مع زركشة صفراء ، زرقاء ، بيضاء . كان الرجل يرتدي جلد نمر ويحمل خيزرانه أو رمح ذهبي . ما هو أكثر دهشة من كل هذا هو أنّ ذلك الشخص ذو الفك المنخفض ، اللحية ، العنق واليد ، كان أسودا . أما شفتاه فقد كانتا رقيقتان ، لحيته كثيفة ، أما الزركشة ذات النمط القديم فيبدو أنها من عمل الحرفيين البابليين)) . في جدر ساسانية أخرى بنيت من مواد قديمة ، عثر على آجر مصقولة تكشف عن قدمين في نعلين من الذهب ، يد رسمت بعناية ، معصم مغطى بالأساور ، فيما تمسك الأصابع بواحدة من تلك الخيزرانات الطويلة والتي أصبحت شعار السلطة الملكية في ظل الأخمنديين . هناك قطعة من الثوب تحمل شعار (سوزا) ، مخفي جزئيا تحت جلد نمر . أخيرا هناك إفريز موشى بالزهورعلى خلفية بنية . كانت الرأس والأقدام سوداء ويظهر جليا أن كامل الزخرفة قد صممت لتنسجم مع البشرة الداكنة للوجه . للشخصيات المؤثرة فقط الحق في حمل عصا الخيزرانات الطويلة وإرتداء الأسوار، بينما يحق لحاكم الموقع الحصين فقط أن يزين ثوبه بصورته المزخرفة . فوق ذلك فإن مالك الخيزرانة وسيد القلعة كانوا سودا . بناء عليه هناك إحتمال كبير بأن تكون عيلام قد حكمت بواسطة أسرة حاكمة سوداء ومن ملامح الوجه التي وصفت سابقا يمكن الحكم عليها بأنها كانت أسرة أثيوبية )).
بعد نصف قرن أيّدت نتائج دكتور / كونتينو إستنتاجات (ديولافو) عن الدور الذي لعبه العرق الأسود في غربي آسيا . أولا يعيد إلى الأذهان رأي (كاترفاج) و (هامي) عن الأنماط العرقية المجسدة في الآثار الأشورية ، فالسوزي على وجه الخصوص (الناتج المحتمل لخليط ما من الكوشيين والزنوج بأنفه المفلطحة نسبيا ، المناخير الموسعة ، عظام الخدود البارزة ، الشفاه الغليظة ، هو نمط عرقي جرى ملاحظته وتصويره بشكل جيد . ثانيا أورد تصنيف (هوساي) للسكان الحاليين والذي ربما تألف من ثلاثة طبقات ، أحدها وصف على النحو التالي : (( يتطابق الآريون – شبه الزنوج مع السوزيين القدامى الذين هم معظمهم سودا ، سلالة من الزنوج القصار ذات سعة ضئيلة للجمجمة . إن الآريون - شبه الزنوج كانوا عريضو الجبهة وليسوا مستطيلي الرأس مثل الزنوج العظام ويمكن أن نجدهم في اليابان ، جزر ماليزيا ، الفلبين ، غينيا الجديدة . مع أنّ هذا التصنيف قد تدخل عليه التعديلات ، إلا أن المكان الذي نسب إليه الزنوج يظل باقيا . بوجودهم يمكننا أن نفسر وجود هؤلاء بين الأقواس الفارسية التي صّورت المحاربين السود بالآجر الملون وليست بهم السمات العرقية للزنوج . من دون المبالغة في أهمية هذا العنصر فإن وجودهم في عيلام القديمة لم يكن موضع شك )) .
إن الخلفية الزنجية المبكرة لعيلام القديمة تسلط ضوء جديدا على خلفية أبيات معينة من الشعر في ملحمة (جلجامش) ، قصيدة بابلية (كوشية) : يا إنليل الأب .. يا سيد البلاد .. يا إنليل الأب .. يا سيد الكلمة الصادقة .. يا إنليل الأب .. ياراع السـود . في هذه الملحمة فإن (أنو) الإله الأصلي ، أب عشتار له نفس الإسم الزنجي مثل أوزيرس (أون) . في الأبيات 92-93 (أخذت الإلهه عشتارالكلمة وتحدثت هكذا إلى أبيها الإله أنو ) . وفقا لـ (اميلينو) فإننا عرفنا أن الـ (أنو) كانوا السود الأوائل الذين سكنوا مصر ، فيما ظل عدد منهم في شبه الجزيرة العربية على إمتداد التاريخ المصري . بالتالي فإن الزنوج الـ (أنو) حقيقة تاريخية وليست تصورا ذهنيا أو فرضية قيد الدراسة . كذلك يمكننا أن نذكر وحتى في أيامنا هذه شعب الأني (أقنو) في ساحل العاج ، حيث لوحظ مبكرا أن لقب (آمون) يسبق أسماء ملوكهم . يعيد (فيكتور كريستيان) في تسلسله الزمني الذي إعتمد على الحسابات الفلكية لـ (كوجلر) ، بداية تاريخ الأسرة الحاكمة الأولى لـ (أور) إلى الفترة ما بين 2600 – 2580 وهو التاريخ الذي تعود إليه ما يعرف بـ (المدافن الملكية) . يتراوح التاريخ الرسمي المتبنى حتى اليوم بدون سبب خاص بين 3100 – 3000 . في الواقع فإن إختيار 3100 ليس ناجم من ضرورة سوى التوافق بين التقويم المصري وتقويم بلاد ما بين النهرين ولأن التاريخ المصري ووفقا لأكثر التقديرات إعتدالا يبدأ في 3200 فإنه أصبح لا مناص أن يبدأ تاريخ بلاد ما بين النهرين في ذات الوقت ، حتى وإن أعدت كل الوقائع التاريخية المعلومة في فترة زمنية أقصر بكثير. ملمحا إلى تقدير (كريستيان) يكتب (كونتينو) : ( ماذا علينا أن نعتقد بهذه الأرقام الجديدة ؟ في ذاتها فإنها تتيح وقتا كافيا للأحداث التاريخية ) . بالرغم من ذلك فقد كان حريصا على أن لا يتبنى ذلك التسلسل الزمني لسببين :
(1) الأول هو أن التقدير سالف الذكر للظاهرة الفلكية والذي يفترض أن يكون معيارا ثابتا ، يخضع إلى الإختلافات . (2) أما السبب الثاني هو أن التسلسل الزمني القصير للغاية لم يأخذ في الإعتبار الحضارات المجاورة ، إذ بصبح من الصعب تفسير أن تكون الحضارة المصرية التي بدأت بحسب أكثر تقديرات علماء الآثار المصرية إعتدالا في العام 3100 ق.م ، أن تكون قد سبقت حضارة بلاد ما بين النهرين بـ (600) سنة . إنّ العلاقات القائمة بين آسيا ومصرفي الحقب التاريخية الأولية هي حقيقة ثابتة وهو أمر لا يمكن تفسيره عند تقديم الحضارة المينوية ، إذا ما إعتمدت تلك الأرقام الجديدة . يبدو المقترح صعب القبول . إنني أعتقد أن دراسة السيد / كريستيان المثيرة للإهتمام يمكن أن تقود إلى إستنتاج مقبول ، فقط إذا أحدثت دراسة مماثلة إختزالا مشابها في تاريخ إبتداء الجضارات المصرية والإيجية (نسبة إلى بحر إيجه) .
في عمل أخر نشر عام 1934 يشدّد دكتور كونتينو على أنه ((يجب أن يوضع في الحسبان التضامن العام الذي كان قائما فالحقب التاريخية بدأ تدوينها في ذات الوقت تقريبا في كل من مصر وبلاد ما بين النهرين وبالرغم من ذلك فإن علماء الآثار المصرية يرفضون عموما تحديد تاريخ (مينا) مؤسس الأسرة الحاكمة الأولى بأقل من العام 3200 ق.م)) . من الواضح من النصوص أن التزامن في تاريخ مصر وتاريخ بلاد ما بين النهرين هو حاجة نبعت من الأفكار وليست من الحقائق . تتمثل الفكرة الدافعة لذلك في تفسير حضارة مصر عن طريق حضارة بلاد ما بين الهرين أي غربي آسيا حيث الموطن الأصلي للهندو- أوربيين . إذا ما بقينا داخل إطار الحقائق المعتمدة فإننا نجد أنفسنا مضطرين للنظر إلى حضارة مابين النهرين بأنها إبنة للحضارة المصرية ولدت متأخرا . إنّ علاقات التاريخ القديم لا تلمح بالضرورة إلى تزامن تاريخ البلدين . لنختم هذا الجزء علينا أن نتأمل هذه الفقرة التي أوردها (مارسيل بريون) إقتباسا من (لوفات ديكسون) (( قبل ثلاثون عاما لم يكن الإسم سومر يعني شيئا للعامة . اليوم هناك شيء يسمى – المشكلة السومرية – أصبح موضوعا مثيرا للجدل وللتفكير المتواصل بين علماء الآثار)) . بالإشارة إلى الآثار الفارسية يفيدنا (ديودورس) بأنها بنيت بواسطة عمال مصريين إختطفهم (قمبيز) المخرب قسرا . لقد أشعل (قمبيز) النار في كل المعابد في مصر وذلك حينما نقل الفرس كل الكنوز إلى آسيا وأختطفوا بعضا من عمال البناء المصريين وبنوا القصور الشهيرة في برسيبوليس ، سوزا ، والعديد من المدن الأخرى في ميديا)) . وفقا لإسترابو فإن تيثون الزنجي ملك أثيوبيا ووالد مينون هو من أسس مدينة (سوزا) . (( في الواقع يزعم أن سوزا أسسها تيثون أي مينون وأن قلعته حملت إسم مينوميوم . السوزيون يسمون كذلك سيزيين ، أما أسكيلوس فتسمى سيسيا والدة مينون)) . إن إسم سيسيا يذكرنا بسيسي وهو إسم عائلة أفريقية .
فينيقيا : إن الإنسان الذي عثر عليه في أرض كنعان والعائد إلى عصور ما قبل التاريخ والذي يعرف بالـ (ناتوفي) كان شبه زنجي . إن صناعة الأدوات القبصية – نسبة إلى قفصة بتونس – والتي جاءت بلا شك من شمال إفريقيا إلى هذا الإقليم ، كانت ذات أصل شبه زنجي . في الكتاب المقدس وحينما وصلت السلالات البيضاء الأولى إلى المكان وجدوا سلالة سوداء هناك ، الكنعانيون وهم ذرية كنعان أخ مصريم المصري وكوش الإثيوبي أبناء حام : ((قال الرب لإبرام : أترك أرضك ، عشيرتك ، بيت أبيك إلى الأرض التي سأريك لها .. ذهب إبرام بعيدا مثلما آمره الرب وأخذ معه زوجته ساراي وفي معيته إبن أخيه لوط وكل المقتنيات والنفوس التي إكتسبوها في حاران وغادروا إلى أرض كنعان وأجتاز إبرام الأرض إلى المكان المقدس عند شكيم بالقرب من سهل موره حيث كان الكنعانيون يومها متواجدين في الأرض )) .
بعد الكثير من الأحداث إمتزج الكنعانيون والقبائل البيضاء التي مثّلها إبرام ونسله (ذرية إسحق) ليكونوا بمرور الزمن الشعب اليهودي الماثل اليوم . (( ذهب حيمور وإبنه شكيم إلى بوابة مدينتهما وتحدثا إلى مواطنيهم قائلين (هؤلاء الرجال مسالمون ، دعوهم يسكنوا معنا ويتاجروا في أرضنا فهناك متسع من المساحة لهم . دعونا نتزوج بناتهم ونزوجهم بناتنا )) . من هذه السطور القليلة التي تبدو خادعة تظهر الضرورات الإقتصادية التي كانت تحكم العلاقات بين الغزاة والكنعانيين السود في ذلك الزمان . عليه فإن التاريخ الفينيقي لا يمكن فهمه إذا ما تجاهلنا إفادات الكتاب المقدس التي بحسبها فإن الفينيقيين أو الكنعانيين هم في الأصل أشباه زنوج ، كانوا متحضرين سلفا وأمتزجوا لاحقا مع القبائل البدوية البيضاء غير المثقفة . إن تعبير (لوكو- سوريين) الذي أطلق منذ ذلك الوقت على السكان البيض لذلك الإقليم ، كان تأكيدا لإفادات الكتاب المقدس ولا يحمل تناقضا كما يعتقد (هوفر) : (( يبدو أن إسم سوري قد جاء من بابل إلى خليج إيسوس ومن الخليج وصل إلى البحر الأسود ولا زال الكاباديسيون القاطنون في (طورس) بالأضافة إلى أؤلئك الذين على البحر الأسود يحملون إسم (لوكو – سوريين) – السوريون البيض – كما لو أنهم سوريون سود )) . إن هذا يفسر التحالفات الطويلة الأمد بين المصريين والفينيقيين وحتى في الفترات التي كانت تسودها الفلاقل والمحن العظيمة كانت مصر تعتمد على فينقيا مثلما يعتمد الأخ على أخيه .
((من بين الروايات الأثرية التي نقشت على جدران المعابد المصرية والتي تشير إلى حركات التمرد الكبيرة التي إندلعت في سوريا ضد الهيمنة الأثيوبية ، لم نرى أبدا في قائمة المتمردين أسماء أهالي صيدا ، أو بعاصمتهم ، أو أيّ من مدنهم . إن أشد تلك القلاقل كانت رعبا هي تلك التي سحقها تحتمس الثالث ، سيتي الأول ، رمسيس الثاني ورمسيس الثالث والتي كانت بتحريض من الأشوريين أو الحيثيين الشماليين . في المتحف البريطاني هناك بردية لا تقدر بثمن تحتوي على رواية قصصية عن زيارة لسوريا قام بها موظف مصري في نهاية عهد حكم رمسيس الثاني ، بعد إبرام إتفاقية سلام مع الحيثيين . على إمتداد سوريا كان المسافر يسير داخل التراب المصري . ويتجول بحرية وأمان مثلما يفعل في وادي النيل ، بل وبفضل وظيفته كان يتمتع بشيء من السلطة)) .
إنّ علينا أن لا نقلل من دور العلاقات الإقتصادية بين مصر وفينيقيا لتفسير الولاء الذي كان قائما بين البلدين . يمكن للمرء أن يفهم أن الديانة والمعتقدات الفينيقية هي نسخة من الديانة والمعتقدات المصرية . تكشف مقاطع من (سانشرنياسيون) التي ترجمها (فيلو الجبيلي) وتقلها عنه (أوزيبيوس) عن نشأة الكون الفينيقية . وفقا لهذه النصوص كانت هناك مادة لم تخلق في حالة من الفوضى ، هي في حالة إضطراب دائم (بوهو) ، فيما حلقت الروح فوق الفوضى وسميت وحدة هذين العنصرين (شيفتس) الرغبة التي هي اصل كل الخلق . إن ما يخلف إنطباعا فينا هنا هو هذا التشابه بين هذا الثالوث الكوني وذلك الذي وجد في مصر كما أورد (أميلينو) في مؤلفه (تمهيدات لدراسة الديانة المصرية) : في نظرية نشأة الكون المصرية هناك أيضا المادة التي لم تخلق وهي في حالة فوضى التي تعرف بـ (نون) الأولية والتي تحتوي على كل الكائنات المحتملة وإله التطور الكامن (خيفرو) . حالما خلق (لرع) من حالة الفوضى الأصلية ، إنتهى دور خالق الشر . من ثّم تتابع النسب بلا إنقطاع حتى قدوم (أوزيريس) ، (إيزيس) ، (حورس) أسلاف المصريين ، ثم إنتقل الثالوث من مجال الكون إلى المجال المتعلق بالبشر كما ظهر ذلك في المسيحية لاحقا .
من خلال أجيال تعاقبت على نظرية نشأة الكون الفينيقية ، توصلنا إلى (ميسور) سلف المصريين الذي أنجب (توت) مبتدع العلوم والآداب والذي هو (تحوت) عند المصريين . في نفس النظرية توصلنا إلى (أوزيريس) و (كنعان) سلف الفينيقيين (لينورمان – المرجع السابق ص 583) . مرة أخرى تكشف نظرية نشأة الكون الفينيقية عن قرابة المصريين والفينيقيين وكلاهما ذو أصل كوشي (زنجي) . لقد تأكدت هذه القرابة بفضل نصوص (رأس شمرا) التي عثر عليها على الساحل السوري والتي كشفت عن أن الموطن الأصلي لأبطال الفينيقيين هو في الجنوب عند الحدود مع مصر . (( لقد أتاحت لنا نصوص (رأس شمرا) الفرصة لإعادة التقصي في أصل الفينيقيين . بينما وضعت اللوحات التي صّورت الحياة اليومية في الحسبان العناصرالأجنبية المختلفة التي كانت تشارك في العمل الروتيني اليومي ، إلا أنها تشير إلى أساطير كان لها ماض مختلف تماما ومع أنهم إهتموا بمدينة في أقصى الشمال الفينيقي ، إلا أنهم تبنوا (النقب) في أقصى الجنوب حيث مسرح الأحداث التي وصفت . بالنسبة للأبطال القوميين والأسلاف فإنهم حددوا موطنهم مابين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وهو أمر أكده هيرودتس (في القرن الخامس) ومن قبله صوفنيا في القرن السابع)) .
من الناحية الجغرافية فإن أساس الأرض الواقعة بين البحر المتوسط والبحر الأحمر هي برزخ السويس والتي يمكن أن نقول أنها بتراء العرب أي أرض (الأونو السود) الذين أسسوا أون الشمالية (هوليوبوليس) في العصور التاريخية . في منتصف الألفية الثانية تقريبا (1.450 ق.م) وتحت الضغط المتزايد للقبائل البيضاء التي إحتلت المناطق النائية ودفعت بالفينيقيين تجاه الساحل ، أسس أهالي (صيدا) أولى المستعمرات الفينيقية في (بيوثيا) حيث إستقر المزيد من السكان هناك . إن إسم (طيبه) يؤكد مرة أخرى القرابة العرقية بين المصريين والفينيقين . إننا نعلم أنّ (طيبه) هي العاصمة المقدسة لمصر العليا التي أخذ منها الفينيقيون المرأتين السوداوين اللتين أقامتا وسطاء للوحي في كل من (دودونا) في اليونان و(أمون) في ليبيا . خلال نفس تلك الفترة إستقر الليبيون في أفريقيا حول بحيرة (تريتون) وفق ما تم الإشارة إليه في دراسة عن الآثار التاريخية لـ (سيتي 1) . من جهته نجد أن (كادموس الفينيقي) يجسّد فترة (صيدا) والمساهمة الفينيقية في اليونان . يقول الأغاريق أن (كادموس) هو من أدخل الكتابة ، مثلما نقول أن الجمهورية الفرنسية هي التي أدخلت السكك الحديدية إلى غرب أفريقيا الفرنسية . وفقا للروايات الإغريقية فإن المستعمرات المصرية في اليونان نشأت في ذات الوقت تقريبا : (كيكروبس) إستقر في (أتيكه) ، (داناوس) أخ (إيجيبتوس) إستقر في (أرجوليس) وعلّم الإغريق الزراعة وطرق المعادن (الحديد) .
خلال هذه الحقبة الصيداوية (نسبة إلى صيدا) كانت عناصر الحضارة المصرية – الفينيقية قد عبرت إلى اليونان . في البدء كانت للمستعمرة الفينيقية اليد الطولى ، لكن سرعان ما بدأ الأغاريق في المقاومة من أجل التحرر من الفينيقيين الذين إمتلكوا السطوة على البحار وكان لهم التفوق الفني في الفترة التي سبقت الأرجونوتيين. لقد رمز إلى هذا الصراع بالقتال بين كادموس (الفينيقي) والثعبان بن مارس (اليوناني) والتي إستمرت ثلاثة قرون : (( لقد جسّدت الخرافة الأسطورية الشقاق الذي نشأ بين السكان الأصليين عند قدوم المستوطنين الكنعانيين من خلال القتال الذي شنه (كادموس) والإسبارطيون . منذ ذلك الوقت فصاعدا فإن الإسبارطيين الذي أبقتهم الخرافة أحياء وأصبحوا رفاقا لـ (كادموس) ، مثلوا العائلات العونية الرئيسية التي قبلت الهيمنة الأجنبية . لم ينعم (كادموس) بحكم إمبراطوريته طويلا ، إذ سرعان ما أبعد وأجبر على التنحي من السلطة بين الأنشيليين . لقد إستعادت العناصر المحلية الحكم بعد أن قبلت بسلطة الفينيقيين وتلقت منهم ثمار الحضارة . لقد ثاروا ضدهم وحاولوا طردهم . كل ما نسنطيع أن نلمحه في هذا الجزء من الرواية المتعلقة بالكادميين هو ذلك الرعب الذي لا تزال تصبغ به سلالتهم وديانتهم ، من خلال الهمجية والفحش الصارخ التي أستثير بها فقراء وكبراء الأغاريق على الذين علموهم . في التراث الإغريقي يلحق الرعب الخرافي بذاكرة الملوك الذين ينحدرون من سلالة كادموسية . لقد زودوا التراجيديا القديمة بمعظم مواضيعها )) .
عند هذه النقطة نكون قد وصلنا فعلا إلى مرحلة فاصلة حينما تحرر العالم الهندو- أوروبي من هيمنة العالم الإفريقي – الفينيقي الأسود . إنّ الصراع الإقتصادي والسياسي الذي يشبه ما تخوضه اليوم الدول المستعمرة ضد ألإمبريالية الحديثة ، قد جرى دعمه – كما هو الحال اليوم – من خلال ردة الفعل الثقافي الذي تسببت فيه ذات الأسباب . لفهم ثلاثية (أوريستيس) الدرامية وملحمة (إينيد) لفيرجيل ، فإن علينا أن ننظر عليها في سياق الكبت الثقافي . بدلا من تفسير الإنتقال الكامل من النظام الأمومي إلى النظام الأبوي – كما رأى باشوفين وأخرين – فإن هذه الأعمال ترمز إلى مواجهة وصراع مفهومين مختلفين : أحدهما له جذور عميقة في السهول الأوربية الآسيوية ، أما المفهوم الأخر فمغروس في قلب أفريقيا . في البداية فإن النظام الأمومي هيمن وإنتشر على إمتداد المتوسط الإيجي ، بفضل الإستعمار المصري الفينيقي لشعوب تلك المنطقة بما فيهم السكان البيض أحيانا ، عدا ممن لهم ثقافة مختلفة لم يكن لها تأثير إيجابي في ذلك الزمن . ربما كان ذلك صحيحا بالنسبة للوكيين والمجموعات الإيجية الأخرى ، غير أن الكتاب القدامي أفادوا بشكل إجماعي أن هذه الأفكار لم تتغلغل فعليا في العالم الأبيض لشمالي أوروبا الذي رفضها حالما أتيح له ذلك ، حيث أن تلك الأفكار كانت غريبة بالنسبة لمفاهيمهم الثقافية . إن هذا هو معنى الإينيد . إن الإمبريالية الثقافية المصرية – الفينيقية كانت في معظمها غريبة للعقلية الشمالية ، مما صعّب من بقاء الإمبريالية الإقتصادية .
إن تاريخ الإنسانية سوف يبقى مشوشا طالما أخفقنا في التمييز بين أول مهدين للحضارة ، صاغت فيهما الطبيعة الغرائز ، المزاج ، الطباع ، المفاهيم الأخلاقية لمجموعتين قبل أن تلتقيا بعد إنفصال طويل يعود إلى عصور ما قبل التاريخ . أول هذين المهدين – كما سنرى في الفصل الذي يتناول مساهمة مصر – هو في وادي النيل من البحيرات العظمى إلى الدلتا عبرما سمي بالسودان (الأنجلو – مصري) . إن وفرة الموارد الحيوية ، الطبيعة الزراعية المستقرة ، الظروف النوعية للوادي ، تولد عنها إنسانها الزنجي المهذب ، المثالي ، ذو الطبيعة المسالمة ، المفعم بروح العدالة والمرح . إن هذه المزايا ضرورية بصورة أقل أو أكثر بالنسبة للتعايش اليومي . بسبب متطلبات الحياة الزراعية فإن مفاهيم مثل النظام الأمومي ، الطوطمية (عبادة الوثن) ، التنظيم الإجتماعي الأكثر مثالية ، ديانه التوحيد ، ظهرت إلى حيز الوجود وقد نتجت عن هذه المفاهيم مفاهيم أخرى فالختان جاء من التوحيد ، أما مفهوم الخنثوية فقد جاء من فكرة الآله (آمون) الخالق الذي أوجد كل الأشياء . بما أنّ (آمون) لم يخلق وبما أنه أصل كل الخلق فقد كان هناك وقت كان فيه وحيدا . بالنسبة لعقلية الأقدمين فإن (أمون) قد إحتوى ضمن ذاته كل مقومات الذكورة والأنونة اللازمة للإنجاب. عليه كإن على آمون الإله الزنجي الأعظم في السودان (بلاد النوبة) وباقي أفريقيا السوداء أن يظهر في الأساطير السودانية كخنثي . إن ذلك نجم عنه ختان الذكور والإناث في العالم الأسود . بإستخدام الظروف المادية لوادي النيل كنقطة فارقة يمكن للمرء أن يفسر كل السمات الأساسية للروح والحضارة الزنجية .
في المقابل فإن قساوة السهوب الأوربية الآسيوية ، جدب تلك المناطق ومجمل الظروف المادية فيها ، عمل على إيجاد الغرائز الضرورية للبقاء في مثل هذه البيئة . هنا فإن الطبيعة لا تدع مجالا لتخيل العطف أو الإهتمام فعلى المرء أنّ يحصل على خبزه من عرق جبينه . إضافة إلى ذلك فإن عليه على إمتداد عيشه الطويل القاسي أن يعتمد على نفسه فقط وعلى إمكانياته فهو لا يستطيع أن يطلق العنان في الإعتقاد بإله يغدق عليه بالعطايا في حياته . بدلا من ذلك فإنه يستحضر الآلهة الشريرة ، الخاقدة والحاسدة : (زيوس) ، (ياهو) بين آلهة أخريات . في ظل هذا النشاط الذي فرضته البيئة المادية على الإنسان ، كانت هناك سلفا المادية مضمنّة والتجسيد وكذا الروح العلمانية . إنّ هذا هو السبب الذي جعل البيئة تصوغ هذه الغرائز تدريجيا لدى سكان تلك المناطق وعلى وجه الخصوص الهندو – أوربيين . لقد كانت كل شعوب تلك المنطقة بيضا أو صفرا تميل غريزيا لحب الغزو والقتال وذلك للرغبة في النجاة من تلك البيئات العدائية ، فالبيئة التي حولهم تطاردهم فإما أن يغادروها ، يستسلموا ، أو أن يحاولوا الإستيلاء على أرض تتوافر فيها عناصر طبيعية أفضل . إن الغزوات لن تتوقف طالما عرفت هذه الشعوب منذ الإتصال الأول مع العالم الأسود إلى الجنوب أن هناك أرضا تتوفر فيها سبل العيش ، تتوافر فيها الثروات وتزدهر فيها التقنيات . لذا ومنذ عام 1450 ق.م وحتى (هتلر) ومنذ برابرة القرنين الرابع والخامس إلى (جنكيز خان) والأتراك فإن تلك الغزوات من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب لم تتوقف .
لقد ظل الإنسان بدويا وقاسيا في تلك المناطق ردحا طويلا من الزمان . لقد أفرز المناخ البارد عبادة النار لتظل متقدة منذ نار (ميترا) إلى شعلة الجندي المجهول تحت قوس النصر ومشاعل الألعاب الأولمبية القديمة والحديثة . تتحمل حياة البداوة والترحال المسئولية عن حرق جثث الموتى بحيث يمكن نقل رماد الأسلاف في جرار صغيرة وقد إستمر هذا التقليد عند الإغريق ، فيما أدخله الآريون إلى الهند بعد عام 1450 وذلك يفسر حرق جثمان يوليوس قيصر وغاندي في عصرنا . لقد كان الإنسان بشكل واضح عماد ذلك النوع من الحياة . لقد كان الدور الإقتصادي للمرأة في ذلك المجتمع أقل أهمية بكثير من ذلك الذي للمرأة في المجتمعات الزراعية السـوداء . بناء على ذلك فإن العائلة الأبوية البدوية كانت بمثابة الجنين الوحيد للتنظيم الإجتماعي . إن مبدأ النظام الأبوي سوف يحكم كامل الحياة لدى الهنود – الأوربيين ، من الأغاريق والرومان حتى قوانين نابوليون إلى يومنا هذا . إن ذلك سبب تأخر مشاركة المرأة في الحياة العامة في المجتمعات الأوربية مقارنة بالمجتمعات الزنجية ، فإن كان العكس يبدو صحيحا اليوم في بعض أجزاء القارة السوداء فإن ذلك يمكن أن يعزى إلى التأثير الإسلامي .
لقد تصادم هذين النوعين من المفاهيم الإجتماعية وتداخلا في حوض البحر المتوسط . على إمتداد كامل الحقبة الإيجية (نسبة إلى بحر إيجه) فإن التأثير الزنجي كان سابقا للتأثير الهندو – أوروبي . لقد كان سكان حوض المتوسط في ذلك الوقت إما زنوجا أو شبه زنوج : مصريين ، فينيقيين ومتى ما جاء البيض كانوا تحت التأثير الإقتصادي والثقافي المصري – الفينيقي : اليونان في حقبة البيوثيين ، آسيا الصغرى وطروادة ، الحيثيين والتحالف مع مصر ، الإتروسك في شمالي إيطاليا حلفاء الفينيقيين مع تأثير مصري قوي ، بلاد الغال التي مرت بها القوافل الفينيقية في ظل التأثير المباشر لمصر . لقد إمتد هذا النفوذ الزنجي ليصل إلى قبائل جرمانية بعينها ، عبدت (إيزيس) الآلهة الزنجية : (( في الواقع فقد عثر على نقوش إرتبطت فيها (إيزيس) بمدينة نوريا وهي اليوم في النمسا . كذلك هناك محاريب لـ (إيزيس) ، (أوزيريس) ، (سيرابيس) ، (أنوبيس) في كل من : فريجوس ، نيم ، أرل ، ريز (جبال الألب السفلى) ، باريزيت (إيزيز) ، ماندويل (جار) ، بولونيا (جارون العليا) ، ليون ، بيزانسون ، لانجر ، سويسون . لقد جرى تبجيل (إيزيس) في مولان ، في يورك وبروقهام كاسل وفي بانونيا ونوريك )) . ربما بدأت عبادة (العذروات السوداوات) في نفس تلك الفترة . إن هذه العبادة لا تزال باقية في فرنسا ( عذراء شارترز السوداء) . لقد بقيت حية للدرجة التي قامت فيها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية أخيرا بترسيمها ، بل ربما كان إسم العاصمة الفرنسية (باريس) تفسيرا لعبادة (إيزيس) . إن الكلمة (باريسي) يمكن أن تعني تماما (معبد إيزيس) لأن هناك مدينة بهذا الإسم على ضفاف النيل ، فيما يمثل المقطع الهيروغلوفي (بير) سور المعبد في (أويز) . لقد أشار الكاتب إلى الحقيقة التي مفادها أنّ أول من سكنوا موقع (باريس) الحالي وقاتلوا ضد القيصر ، كانوا يحملون إسم (باريسي) لسبب ما غير معلوم حتى اليوم . لقد كان من الواضح تماما أن عبادة (إيزيس) كانت واسعة الإنتشار في فرنسا ، خاصة في الحوض الباريسي حيث كانت توجد معابد (إيزيس) في كل مكان أو بشكل أكثر دقة (دور إيزيس) حيث أن المعابد كانت تسمى في اللغة المصرية القديمة ولغة الوولف الحالية بـ (بير) وهي تعني السور الذي يحيط بالبيت أو الدار . إن إسم (باريس) يمكن أن يكون قد نتج من جمع الكلمتين (بير – إيزيس) وهو إسم سميت به مدن بعينها في مصر بحسب (هوباك) مقتبسا من (ماسبيرو) . بناء على ذلك فإن جذر إسم العاصمة الفرنسية ربما أشتق بشكل أساسي من لغة (الوولف) . إن هذا يشير إلى أي مدى جرى عكس الوضع .
إن هناك ملامح ثقافية أخرى مشتركة بين الغرب وأفريقيا السوداء ففي الكلمات نجد أن كلمة ( كير) تعني دار بالمصرية ولغة الوولف والبريتون ، أما كلمة (دانق) فتعني مقام في لغة الوولف واللغة الأيرلندية ، في حين أن كلمة (دون) تعني جزيرة بلغة الوولف فيما تعني المكان المنعزل المغلق (على الأرض) باللغة الكلتية والأيرلندية . لذلك عرفنا أسماء مثل فير – دون ، شاتو – دون ، لوج – دون – أوم (ليون) وهكذا . إنه من المهم تسليط الضوء على العلاقات بين تبادلات الحروف الساكنة في لغات بريطانيا وأفريقيا وأن علينا أن ننسب ذات التأثير إلى وجود الإله (أني) بين الأيرلنديين والأتروسك . إن تأثير المصري – الفينيقي على الأتروسكيين كان واضحا تماما مثلما هو على السابيين الذي يشي أسمهم وعاداتهم بالحضارات الزنجية الجنوبية . إن التمييز بين مهدي الحضارة الذي وضع أخيرا ، يمكننا من تفادي الإرتباك والغموض المتعلق بأصول الشعوب التي إلتقت في شبه الجزيرة الإيطالية . كان السابيين والأتروسك يدفنون موتاهم . بالنسبة للأتروسك فقد كانوا يعرفون التابوت المصري ويستخدمونه . لقد كان هؤلاء السكان زراعيين ويحكم حياتهم النظام الأمومي . لقد نقل الأتروسك كل عناصر الحضارة المصرية إلى شبه الحزيرة الإيطالية : الزراعة ، الديانة ، الآداب بما في ذلك الأدب الديني . حينما دمر الرومان الأتروسك إستوعبوا جوهر تلك الحضارة ، بينما إستبعدوا تلك الجوانب الأكثر غرابة بالنسبة لمفهومهم الأورو- أسيوي للنظام الأبوي . بهذه الطريقة وبعد فترة إنتقالية لـ (التاركان) أخر ملوك الأتروسك ، جرى التخلص بشكل تام من النظام الأمومي الأسود .
msaidway@gmail.com[/rtl]
salih sam
لـــواء
الـبلد : المهنة : College studentالمزاج : اللهم سلم السودان و اهل السودان التسجيل : 09/05/2011عدد المساهمات : 7924معدل النشاط : 6296التقييم : 271الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 17:40
(7)
[rtl] بنهاية عالم قديم وبداية عالم جديد ، فإن الثقافة السوداء في أشكالها التي بدت أكثر غرابة للمفاهيم اليورو – أسيوية قد جرى إستبعادها من حوض المتوسط الشمالي . إنه لم يعد لها بقاء إلا كأساس بين الشعوب الصغيرة التي وصلت إليها الحضارة . إن هذا الأساس يصعب علينا حتى اليوم أن نحدد مداه . لكل ذلك فإن علينا أن نضيف بأن اللبوة الرومانية تبعث على التذكير بالطوطمية الزنجية الجنوبية كما أن (سابيين) تحمل في داخلها جذر الكلمة (سبأ) . بناء على ذلك فإن تاريخ الإنسانية يبدو واضحا تماما . بالرغم من أعمال التخريب المتكررة منذ أيام (قمبيز) مرورا بالرومان ، مسيحيي القرن السادس في مصر ، الفاندال ، الخ .. فإن لدينا من الوثائق ما يكفي لكتابة تاريخ واضح للبشرية . إن الغرب اليوم يدرك ذلك تماما ، غير أنه تنقصه الشجاعة الفكرية والأخلاقية المطلوبة وهذا هو سبب التشويش الواقع اليوم على الكتب المدرسية بشكل متعمد . لذا يتعين علينا كأفارقة أن نعيد كامل تاريخ البشرية من أجل تنويرنا وتنوير الأخرين .
(( إن ذات التأثير الزنجي يمكن أن يفسر كذلك الواقع اللغوي الصوتي الذي أورده (فون فارتبرج) والذي شدد على التوسع في إستخدامه . إن تغيير (الـ ) إلى (دد) – بإنثناء طرف اللسان أو بأخره - لدى أهل سردينيا ، صقليه ، أبوليا ، كلابريا ، لا يعوزه الأهمية . وفقا لـ (ميرلو) فإن هذه الطريقة المميزة في النطق ربما تكون عائدة إلى شعوب البحر المتوسط التي عاشت في تلك البلاد قبل أن تصبح رومانية . مع أنه توجد أصوات من ذات النوع في لغات أخرى ، إلا أن التغيير في النطق بطابع قديم بشكل واضح كان واسعا جدا وفي مناطق شاسعة إمتدت عبر البحار ، مما يجعل تصور (ميرلو) صحيحا بالتأكيد . لقد إكتشف كل من (بوت) و (بينيفي) منذ وقت طويل أن هذا النطق قد أدخل في اللغات الآرية التي كان يتحدث بها غزاة (ديكان) الذين تحدروا من الشعوب الدرافيدية )).
بناء على ذلك فإن إدخال تلك الأصوات في اللغات الآرية للهند حينما تعرض هذا البلد للغزو من قبل شعوب الشمال الهمجية ، كان عائدا لتأثير الزنوج الدرافيديين . يمكن الإفتراض بأن ذات الشيء قد حدث في حوض البحر الأبيض المتوسط ، لكون اللغة المصرية واللغات الزنجية تشبعت بتلك الأصوات . في المكسيك وقبل قدوم كولمبوس كان يتم دفن الفلاحون فيما تحرق جثامين المحاربين ، ممارسة يمكن أن تفسر التمييز الموجز آنفا عن مهدي الحضارة البشرية . ربما إلتقى البيض القادمون من الشمال والسود الذين عبروا الأطلنطي من أفريقيا وأمترجوا تدريجيا لينتج عن ذلك الجنس الأصفر للهنود بشكل أكثر أو أقل . هنا تفسير موجز : حينما أكتب أنّ العرب واليهود ، الفرعين العرقيين المعروفين اليوم بالساميين هم خليط من السود والبيض ، فإن تلك حقيقة تاريخية يمكن إثباتها ، جرى إخفاؤها زمنا طويلا وحينما أقول أن السلالات الصفراء هي خليط من السود والبيض فإن ذلك إفتراضا جدير بالإهتمام والدراسة لكل الأسباب التي جرى الإستشهاد بها آنفا .
مع أن الفرضية التي مفادها أنّ الإنسان تواجد في آن واحد في كل مكان ذات جاذبية علمية ، إلا إنها تظل غير مقبولة طالما أننا لم نعثر على إنسان أحفوري في أمريكا ، وهي القارة التي لم تغمرها المياه في فترة العصر الجليدي الرابع والتي ظهر فيها الإنسان وكل المناطق المناخية من القطب الجنوبي إلى القطب الشمالي . كما أشير سابقا فإنه من المفيد أن تكون هناك دراسة منتظمة للجذور اللغوية التي إنتقلت من اللغات الزنجية (المصرية وغيرها) إلى اللغات الهندو – أوربية على إمتداد فترة إتصالهم . هناك مبدأين يمكن أن يقوداننا في هذه الدراسة : (1) أسبقية الحضارة وأشكال التنظيم الإجتماعي في البلاد الزنجية مثل مصر (2) إحتمالية أن تكون الكلمات التي تعبر عن فكرة التنظيم الإجتماعي أو جانب ثقافي أخر ، مشتركة مع اللغات المصرية ، اللاتينية أو الإغريقية دون أن تظهر في لغات أخرى من عائلة اللغات الهندو – أوربية . على سبيل المثال :
تعني المحارب في اللغة المصرية Maka تعني المحارب ، المبجل بلغة الوولف Mag تعني العظيم ، المبجل بلغة الوولف Kay Mag تعني الملك ، العظيم . أستخدم هذا التعبير للإشارة إلى ملك غانا منذ القرن الثالث إلى حوالي عام 1240 . كانت اللغة هي لغة السراكولي ( أو لغة قريبة منها) . في كل الأحوال فهي تتصل بلغة الوولف بشكل واضح . Kaya magan تعني العظيم في اللغة اللاتينية . لم يرد ذكر اللاتينيون في التاريخ قبل 500 قبل الميلاد . Magnus تعني شارلمان ، شارل العظيم ، أول إمبراطور للغرب . Carle Magnus تعني العظيم باللغة الإغريقية أما جذرالكلمة فلا يوجد في مفردات اللغات الأنجلو – ساكسونية والجرمانية ، عدا كونها إستعارة واضحة من اللغة اللاتينية . Mega (Root: Magnus) إسم أسكتلندي أصيل . Mac آلة موسيقية في غرب أفريقيا ، أغنية بالإغريقية . Kora إله مصري تجسده الشمس وهو لقب الفرعون . Ra, Re إله سماوي يتمثل صوته في الرعد Rog تعني الملك في اللغة اللاتينية ، أما في اللغات الأنجلو – جرمانية فتجيء (كينق) أو (كونيق) . Rex
في ذات السياق يمكننا أن نبحث في الكلمة (هيمن – تعني بالفرنسية زواج) التي ربما كان لها صلة بالنظام الأمومي الزنجي وتوحي بكلمة (مين) التي تعني الإنتساب إلى الأم في لغة الولوف وكذلك تعني الثدي في اللغة المصرية ولغة الوولف أيضا ، كما تشير إلى ملك مصر الأول (مينا) المحّور إسمه . لذا فإن في هذا الإسم ما يشير إلى فكرة الإنتقال الأمومي للسلطة السياسية . إنه ليس من باب المصادفة أن يحمل ذلك الملك السوداني الذي كان أول من أرسى قواعد لعبادة الشمس في بلاد النوبة ، إسم (مين – ثيو) وهو إما أن يكون معاصرا لـ (مينا) أو سابقا له .
إن كل الأشياء تبقى قيد التمعن حينما يقول النازيون أنّ الفرنسيين زنوج ، فإذا ما تجاهلنا القصد التحاملي لذلك التأكيد ، فإنه يبقى قائم على أساس تاريخي ، إذ أنه يشير إلى تلك الإتصالات التي حدثت بين شعوب المنطقة في الحقبة الإيجية (نسبة إلى بحر إيجه) . إن ذلك القول صحيح ليس فقط حصرا على الفرنسيين ، بل كذلك على الإسبان ، الإيطاليين ، اليونانيين ، الخ .. فكل هذه الشعوب ذات البشرة الأقل بياضا من الأوربيين الأخرين ، يميلون بشكل تواق إلى موطنهم الجنوبي . ما هو مزيف في الدعاية النازية هو الزعم بالتفوق العرقي ، مع أنه من دون شك أن الجنس الشمالي ذو العيون الزرقاء والشعر الأشقر كان الأقل إختلاطا منذ العصر الجليدي الرابع . إن هذه النظريات النازية تثبت ما قلته عن عدم إخلاص المتخصصين ، إذ أنها تبين أن التأثير الزنجي على البحر المتوسط ليس خافيا على أي باحث ، لكنهم يتظاهرون بعدم معرفتهم لذلك ، أو يستخدمونه حينما يشعرون بالإنحياز .
وفقا لـ (لينورمان) فإن الفلسطينيين المنحدرين من ذرية (يافث) ، غزو في القرن الرابع عشر قبل الميلاد سواحل كنعان ، لكن رمسيس الثالث هزمهم ودمر أسطولهم وأقصى بالتالي أي إمكانية لعودتهم عن طريق البحر . لقد أضطر الفرعون إلى أن يجد سبيلا لإيواء شعب كامل ، حرم من أي وسيلة للخروج . لذا فقد منحهم أرضا حيث إستقر الفلسطينيون هناك . بعد قرنين من تطورات الأحداث عمد الفلسطينيون إلى تدمير (صيدا) في القرن الثاني عشر ، في ذات الفترة التي ألحق فيها الإغريق هزيمة بطرواده التي تلقت يومها مددا من ملك مصر قوامه 10.000 مقاتل إثيوبي . لقد أسس الفينيقيون (صور) التي رحبت باللاجئين من (صيدا) . في المقابل فإن إسبانيا أصبحت محطة على الطريق إلى بريطانيا وجزر سورليج ، حيث كان الفينيقيون يذهبون لجلب القصدير الذي يستخدمونه في صناعة البرونز . لقد كان إستعمار إسبانيا سريعا وفي ذلك الوقت كان التهجين قد بلغ مدى كبيرا للدرجة التي إعتبر فيها الأغريق سكان شبه الجزيرة الإيبيرية من أصل كنعاني . إذا كان الإسبان اليوم أكثر الأوربيين سـمرة فإن ذلك يجب أن يعزى إلى التهجين أكثر من أن يعزى إلى إتصالهم الأخير بالعرب – بعيدا عن التأثيرات العرقية التي يمكن أن تكون قد نجمت عن وجود الجنس الجرمالدي الزنجي في جنوب أوروبا عند نهاية العصر الحجري الجديد (لينورمان – نفس المصدر ص 509 – 510).
لقد حل الإستعمار الروماني محل الإستعمار الفينيقي ، أولا في إيطاليا حيث طمس كل ما يذّكر بالأتروسك من آثار ولغة ، ثم في إسبانيا وأفريقيا مع تدمير (قرطاج) التي تأسست على الساحل الأفريقي حوالي عام 814 ق.م وكانت (قرطاج) واحدة من أخر المستعمرات الفينيقية . منذ عام 1450 غزا الليبيون البيض أو (الريبو) وهم من شعوب البحر شمال أفريقيا غرب مصر . قبل تأسيس قرطاج كان لديهم الوقت للإنتشار على إمتداد الساحل في إتجاه الغرب مثلما ذكر (هيرودتس) ، ثم جاء وقت سكن السود المحليين الذين تواجدوا هناك على إمتداد التاريخ القديم في المناطق النائية من (قرطاج) وكذلك من قبل القبائل الليبية البيضاء . لقد حدث التهجين بالتدريج كما في إسبانيا ، حيث كان القرطاجيون نخبة وعامة من أشباه الزنوج بشكل واضح . إننا لسنا في حاجة للتشديد على الحقيقة التي مفادها أن (هانيبال) القرطاجي الذي أخفق بالكاد في أن يدمر روما والذي يعتبر واحدا من أعظم القادة العسكريين على مر العصور كان شبه زنجي . إنه يمكن القول أنه بإخفاقه فإن تفوق العالم الزنجي أو شبه الزنجي قد إنتهى . من ثمّ فقد إنتقلت الشعلة إلى الشعوب الأوربية في شمالي المتوسط . منذ ذلك الوقت فصاعدا فإن الحضارة الفنية لتلك الشعوب إنتشرت من الساحل في إتجاه الأجزاء الداخلية للقارة (عكس ما حدث في أفريقيا). منذ ذلك الوقت هيمنت شعوب شمال المتوسط على جنوبه وعدا الإختراق الإسلامي فإن أوروبا حكمت أفريقيا منذ ذلك الوقت حتى اليوم . مع النصر الذي حققه الرومان على قرطاج ، بدأ الإختراق الأوروبي والسيطرة على أفريقيا وقد وصل ذلك إلى ذروته في نهاية القرن التاسع عشر .
عند دراسة الحضارة التي نطورت في حوض البحر المتوسط ، يتضح أنه من غير الممكن إضفاء صفة المبالغة على الدور الجوهري الذي لعبه الزنوج وشبه الزنوج في وقت كانت فيه الأجناس الأوربية لا تزال همجية : (( لقد كان للفينيقيين مراكز تجارية في كل مكان وقد أحدثت هذه المراكز تأثيرا واسعا على مختلف الدول التي تواجدت فيها . لقد أصبح كل مركز تجاري بمثابة نواة لمدينة كبيرة ، لا سيما للأهالي المتوحشين الذين جذبتهم تلك المراكز بسبب مزاياها وأغرتهم الحياة الحضرية التي سرعان ما عملت على تجميعهم حول المراكز التجارية الفينيقية . لقد كانت مراكز نشطه فيما يتعلق نشر الصناعة والحضارة المادية . في الواقع فإن القبائل الهمجية لم تشرع في الدخول في تجارة نشطة طويلة الآجل مع شعب متحضر قبل أن تستعير شيئا من ثقافته ، خاصة حينما تكون تلك الشعوب ذكية وقابلة للتقدم مثل الأوربيين . لقد تولدت إحتياجات جديدة فالأوروبي سعى وبشغف للمنتجات المصنّعة التي كانت تجلب إليه والتي كشفت عن نقاء أبعد مما كان يتصور ، ثم سرعان ما دفعت الأوربي الرغبة لمعرفة أسرار صناعات تلك الشعوب حتى يتعلم الفنون التي أنتجتها ولكي يبدأ بنفسه في إستخدام الموارد التي تمده به أرضه ، بدلا من تسليمها إلى هؤلاء الأغراب الذين يعرفون كيفية الإستفادة منها . إن التأثير المباشر للحضارة على الهمجية متأصل في الطبيعة البشرية وهو أمر يتسلل بغير وعي برغم سوء التفاهمات ، الحقد ، العداء وحتى الحروب التي يمكن أن تندلع بين التجار والشعوب التي يتعاملون معها وقد حدث ذلك مع الفينقيين والأغاريق رغم أن علاقاتهما في البداية كانت أبعد من الودية )) .
بينما كان الفينيقيون يسيطرون على البحار ، كانت تجارة جلب النساء البيض إلى العالم الأسود تجري على قدم وساق . في الواقع يجب عدم التقليل من دور هذا النشاط في تبييض بشرة المصريين . الإقتباس التالي لا يدع مجالا للشك عن واقع وأهمية تلك التجارة وإختلاف لون المصريين السود عن البيض ساكني السواحل الشمالية : (( كانت السفن الفينيقية المحمّلة بالبضاعة من مصر وآشور ترسى على الميناء الإغريقي وتعرض بضائعها على الشاطيء لمدة خمسة أو ستة أيام حتى تمنح سكان الداخل الوقت الكافي للمجيء ، المشاهدة والشراء . كانت النساء البيلوبونيزات وبدافع حب الإستطلاع يقترين من السفن غير مباليات ومن بينهن (إيو) إبنة الملك إيناخوس. عند إعطاء إشارة متفق عليها يتم إختطاف النساء الإغريقيات الجميلات من قبل القراصنة ويحملنّ بعيدا، ثم سرعان ما يرفعوا المرساة وينطلقوا نحو مصر . كان على الفرعون أن يدفع ثمنا عاليا مقابل هؤلاء الفتيات ذوات البشرة البيضاء والملامح الصافية ، المختلفة تماما عن تلك الشحنة البشرية التي كانت تجلبها جيوشه من سوريا )) .
في ذات السياق يمكننا أن نذكر إختطاف إبنه النبيل (إسكيروس) بواسطة فينيقيي (أوميا) وإغتصاب (هيلين) بواسطة (باريس) بن (بريام) . يفترض أن يكون قد حدث هذا في طروف مماثلة ، إن كان علينا أن نتذكر أنّ الفرعون قد أرسل 10.000 إثيوبي لمساعدة طرواده . لقد كان الكنعانيون أكثر سرعة في التهجين من المصريين ، كونهم كانوا أقل عددا ومواقعهم أقرب لطرق الهروب التي كان يمر بها البيض الذين إنتهى بهم الأمر في النهاية إلى غزو الإقليم من كل الأنحاء . أما الشعب اليهودي الآتي من نسب (إسحق) والذي عرف بالفرع السامي فيبدو أنه كان نتاج ذلك التهجين وذلك هو السبب الذي دفع مؤرخ لاتيني القول بأن اليهود ذوي أصل زنجي . إنّ روح السخرية والروح التجارية التي شكلت أساسا فعليا للكتاب المقدس (سفر التكوين ، سفر الخروج) ، تعكس ببساطة الظروف التي عاش فيها الشعب اليهودي منذ البداية . إن الإنتاج الفكري لليهود منذ البداية وحتى اليوم ، تفسره أيضا الظروف التي ظلوا يعيشون تحتها بشكل دائم . منذ شتاتهم ومنذ تشكيلهم تجمعات لأشخاص بلا وطن ، فإن الشعب اليهودي عايش وبشكل دائم قلق مزدوج : ضمان وجودهم المادي في البيئات العدائية والخوف الناجم من الإضطهاد والمذابح المتكررة . في الماضي القريب نسبيا وعلى السهوب الأورو – آسيوية لم تتح الظروف الطبيعية مساحة للتخيل والكسل ، فإذا فشل الإنسان في صنع حضارة مدهشة هناك ، فإن ذلك يعود إلى أن البيئة كانت معادية تماما .
أما اليوم فإن الظروف السياسية والإجتماعية لم تدع لليهود مجالا للترف الفكري فهم لم يحسبوا في عداد التاريخ حتى مجيء النبيين (داؤود) و (سليمان) ، إو عند بداية الإلفية الأولى في عهد ملكة سبأ ووقتها كان عمر الحضارة المصرية أو بالأحرى الحضارة النوبية السودانية عدة الآف من السنين . إنه من غير القابل للتفكير محاولة تفسير مساهمة اليهود في هذه الحضارة . لقد كان (سليمان) ملكا لقطاع صغير من الأرض وهو لم يحكم العالم أبدا كما تزعم الأساطير . في الواقع فإنه شارك مع تجار (صور) في بناء ميناء بحري لإستغلاله في التوجه إلى أسواق ما وراء البحار . بفضل ذلك النشاط التجاري ، إزدهرت فلسطين تحت حكمه . إن ذلك هو الحكم الوحيد الهام في تاريخ اليهود منذ ذلك العهد وإلى اليوم . لاحقا عمل (نبوخذ نصر) الذي تمكن من هزيمتهم على نقلهم إلى (بابل) وتلك هي الفترة التي عرفت بفترة (السبي) . شيئا فشيئا تشتت اليهود وإضمحلت بسرعة دولتهم ولم تعاود الظهور حتى بروز الصهيونية الحديثة بقيادة (بن غوريون) .
لم يحدث أن تجرأ بحث أنثربولوجي على أن يثبت وبشكل واضح أنه ليس للفينيقيين شيء يجمعهم مع النموذج اليهودي الرسمي . حيث أن الفينيقيين قد إنتشروا على إمتداد البحر الأبيض المتوسط فإنه قد جرى البحث عن رفاتهم في مواضع مختلفة من ذلك الحوض . لذا فقد عثر على جماجم غرب (سرقوسه) إفترض إنها عائدة للفينيقيين ، غير أن هذه الجماجم كانت تحمل ملامح مميزة تشابه الجنس شبه الزنجي من حيث إستطالة الرأس وبروز الفكين (أوجين بيتار- الأجناس والتاريخ – باريس 1924 ص 108) . كذلك إقتبس (بيتار) وصفا من (بيرتولون) غن القرطاجينيين والباسكيين الذين يعتبرهم (بيرتولون) فرعا من القرطاجنيين . إن هذا الوصف هام لأن المؤلف ومن دون التحقق من الوصف ، قدم وصفا للنموذج الزنجي : (( لقد قدم (بيرتولون) وصفا لرجال إعتبرهم الذرية الباقية من القرطاجنيين القدماء وأنهم ذوو بشرة سمراء جدا . إن ذلك يعكس عادة الفينيقيين في تلوين تماثيلهم باللون البني المحمّر لنسخ لون البشرة . الأنف مستقيمة وأحيانا مقعرة قليلا ، في الغالب مكتنزة وأحيانا مفلطحة عند النهاية ، أما الفم فهو متوسط وأحيانا واسع تماما . بالنسبة للشفاه فهي غليظة وعظام الخدود ليست بارزة تماما.
بالرغم من لطف هذه التعابير ، إلا إنه من السهل أن ندرك أننا نقرأ فقط وصفا لزنجي أو على الأقل شبه زنجي . إن نفس الكاتب يبين لنا أن كامل الطبقة الأرستقراطية من القرطاجنيين تحمل ملامح مشابهة للزنوج (( هناك عظام أخرى أكتشفت في قرطاج وأودعت متحف (لافيجيري) عثر عليها في توابيت خاصة ، ربما تعود إلى النخبة القرطاجنية . إن لكل الجماجم تقريبا إستطالة في الرأس مع وجه صغير نوعا ما )) . إن الرأس المستطيل والوجه الصغير هو من مميزات الجنس الزنجي . ما هو أكثر أهمية من ذلك هي فقرة أخرى أوردها بيتار نفسه ، تثبت بشكل أكثر إقناعا أن الطبقة العليا من المجتمع القرطاجي كانت زنجية أو شبه زنجية . (( إنّ الذين زاروا مؤخرا متحف لافيجيري في قرطاج سوف يتذكرون أنّ التابوت المهيب لكهنة (تانيت) قد أكتشف بواسطة الأب (ديلاتري). لقد وجد أن هذا التابوت هو الأكثر زخرفة وفنية منذ إكتشافه حتى اليوم والذي ربما يمثل الآله نفسه على صورة التابوت الخارجية . يفترض أن يكون هذا التابوت عائدا لشخصية دينية سامية ، أما المرأة التي دفنت هناك فلها ملامح زنجية وهي تنتمي للجنس الأفريقي – ص 410)) .
ما أستنتجه المؤلف من هذه الفقرة أن هناك سلالات عديدة تعايشت معا في قرطاج ونحن نتفق معه في ذلك بشكل جلي . بالرغم من ذلك فإن هناك إستنتاج واحد لم يستمده المؤلف وهو الأكثر إضطرارا للجوء إليه وهو أنه من بين السلالات العديدة التي تعايشت في قرطاج فإن الجنس الزنجي كان هو الأكثر إحتراما ورفعة إجتماعية والأكثر توليا للمناصب السياسية ، إذا كان علينا أن نحكم بالبراهين المادية بدلا من تفسيرها بشكل يتوافق مع التحيزات التي عرفناها . إذا قدر لـ (باريس) أن تدمرها قنبلة ذرية ولم يمس الدمار مقابرها ، فإن علماء الآثار كانوا سوف يفتحون القبور لمعرفة إن كانت (باريس) قد سكنها الفرنسيون وحدهم أم لا . من جهة أخرى سوف يكون من غير المتصور أن تكون الجثة المدفونة في أكثر المدافن جمالا مثل تلك التي لـ (نابوليون) في الأنفاليد ، عائدة لعبد أو شخص مجهول . بناء على ذلك إذا رغب شخص في ذلك فعلا ، فإن السلالة الفينيقية وكل السلالات الزنجية الأخرى ذات الصلة التي تدين لها البشرية ببلوغ الحضارة ، يمكن تعريفها يشكل أكثر دقة . يمكننا أن نفعل ذلك حتى بواسطة الوسائل الأنثربولوجية ، مع أن التجربة قد أظهرت أنه من الممكن أن يؤازر شخصا أي نظرية يأمل فيها . بأمل العثور على دليل يشير بشكل مؤكد ونهائي إلى أن مولد الجضارة كانت في غربي آسيا ، فإن الملايين تصرف من أجل البحث عن الإستحكامات المبنية من الطين في بلاد ما بين النهرين .
مع أن أؤلئك الذين تعهدوا بذلك العمل لديهم بصيص أمل في بلوغ أهدافهم ، إلا إنهم مع ذلك إستمروا كما لو أن العمل الروتيني أصبح بالنسبة لهم عادة دائمة . في المقابل فإن الموقع الصحيح للمدافن الفينيقية معلوم . كل ما هو مطلوب الذهاب إليها وفتحها من أجل الحصول على معلومات عن الجثث التي تحتويها . لقد رؤي أنه من الأفضل عدم مسها لأنها تثبت الأصل الزنجي لهذه الجثث وهو أمر يستحيل إنكاره : (( لإكتشاف الخصائص الأنثربولوجية للفينيقيين القدامى فإنه من الضروري فحص الجماجم في مدافن العصر الفينيقي العظيم ، على الشواطيء بالذات حيث طوّرت كل من (صور) و (صيدا) قوتها كمراكز تجارية . للأسف فإن هذه الوثائق الهامة لم تتح بعد لعلماء نشوء الأعراق . إن ذلك سيكون متاحا يوما ما ، بعد أن يؤدي البحث المنتظم إلى المحافظة على البيانات الآثرية والجماجم التي جرى التعهد بها )) . لقد كتب ذلك عام 1924 . منذ ذلك التاريخ فإن القليل من الحفريات جرت في الإقليم ( إنقطعت الحفريات في رأس شمرا عام 1939) . لقد أكتشفت الكثير من الوثائق بالصدفة . إن أكثر المدافن قدما جرى العثور عليها في بيبيلوس بـ (فينيقيا) بواسطة (دوناند) والتي ربما يعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث . إن ما يسمى اليوم الجنس المتوسطي الأسمر ليس سوى الجنس الزنجي . علاوة على ذلك فإن بعض الجماجم التي أظهرت تشوها ، عثر عليها اليوم فقط بين زنوج المانجبيتو في الكونغو .
جزيرة العرب : وفقا لـ (لينورمان) فإن الإمبراطورية الكوشية نشأت أصلا على إمتداد جزيرة العرب . إن هذه هي الحقبة التي جسدها العاديون من (عاد) ، أحفاد (حام) السلف الأعلى للسود بحسب الكتاب المقدس . إن (شداد) إبن عاد وباني (جنة الأرض) الأسطورية ينتسب إلى تلك الحقبة التي تعرف بـ (عاد الأولى) . لقد دمرت هذه الإمبراطورية في القرن الثامن عشر قبل الميلاد بغزو من قبل القبائل اليهودية البيضاء الوعرة ، التي يبدو أنها جاءت للإستقرار بين السود . أخذ الأمر وقتا طويلا قبل أن يسترد العنصر الكوشي السيطرة السياسية والثقافية ، أما القبائل البيضاء الأولى فقد ذابت بالكامل مع الكوشيين . لقد أطلق على تلك الحقبة (عاد الثانية) – لينورمان ص 260 – ص 261 .
إن هذه الحقائق التي يتفق معها حتى الكتاب العرب سوف تصبح قريبا أكثر وضوحا ، ذلك أن الجنس العربي لا يمكن تصوره شيء أخر سوى أنه خليط من السود والبيض وهي عملية تستمر حتى اليوم . إن نفس هذه الحقائق تثبت أيضا أنّ السمات المشتركة للثقافة السوداء والثقافة السامية قد جرى إستعارتها من السود . إن محاولة تفسير العالم المصري الزنجي من خلال العالم السامي ، محاولة من المستحيل المضي فيها بسبب وجود بعض من المتشابهات في القواعد اللغوية فقط مثل إقتران اللواحق ، لواحق الأسماء ، والتاء للأنثى . إن العالم السامي كما نتصوره اليوم حديث العهد جدا ليفسر حضارة مصر . كما رأينا فإنه قبل القرن الثامن عشر قبل الميلاد فإن الزنوج (الكوشيين بحسب المصطلح الرسمي) كانوا متواجدين في إقليم الجزيرة العربية . لقد كان التسلل إلى الجزيرة العربية قبل الإلفية الثانية غير ذي أهمية نسبيا . في القرون الأولى من عصر (عاد الثانية) قهرت مصر تلك البلاد تحت أقلية (تحتمس الثالث) . يعتقد (لينورمان) أنّ الجزيرة العربية هي أرض بونت وأرض ملكة (سبأ) . إنه علينا أن نذّكر القاريء بأن الكتاب المقدس حدد موضع (بوط) أحد أبناء حام في نفس البلد .
في القرن الثامن قبل الميلاد أصبح (القحطانيون) أقوياء بما فيه الكفاية للسيطرة على السلطة ، مثلما دان الأمر للأشوريين على البابليين بذات الطريقة خلال نفس الفترة ( وكذلك الكوشيين) : (( مع أنهما إشتركا في نفس العادات واللغة ، فإن العنصرين اللذين شكلا السكان في جنوبي الجزيرة العربية ، ظلا متميزين تماما بمصالح متضاربة مثلما في حوض الفرات : الآشوريين الذين يشبهون الساميين والبابليين الذين يشبهون الكوشيين . على إمتداد الفترة التي عاشتها إمبراطورية عاد الثانية ، كان القحطانيون تحت حكم الكوشيين ، غير أنه جاء اليوم الذي شعروا فيه بأنهم أقوياء بما يكفي ليكونوا أسيادا بدورهم . بقيادة (لاربو) هجموا على أهل (عاد) وأصبحوا قادرين على التغلب عليهم . حدد تاريخ تلك الثورة في بداية القرن الثامن قبل الميلاد )) .
لقد ذكر (لينورمان) أنه بعد إنتصارالقحطانيين عبر بعض أهل عاد البحر الأحمر عند (باب المندب) للإستقرار في إثيوبيا ، بينما بقي أخرون في الجزيرة العربية متخذين من جبال حضرموت وأماكن أخرى ملجأ لهم ومن هنا جاء المثل العربي ( تفرقوا أيدي سبأ) وهذا هو السبب الذي جعل الجزيرة العربية وأثيوبيا لا تنفصلان من الناحية اللغوية والأنثربولوجية (( قبل وقت طويل من إكتشاف اللغة الحميرية ونقوشها ، لوحظ أن اللغة الإثيوبية - جيز - بقيت حية في اللغة اليمنية القديمة)) . لقد كانت هذه هي العلاقات بين الإقليمين ، غير أننا بعيدون عن أي فكرة تفيد بهجرة جنس أبيض متحضر خلال فترة ما قبل التاريخ ، عبر باب المندب أو عبر أي مكان أخر . إننا يمكننا أن نفهم كيف أن النظريات اللغوية الألمانية التي ترتكز على هذه الفرضية هي نظريات غير مقبولة . بذات القدر فإن هناك نظريات مرفوضة لتبنيها ذلك الإفتراض لتفسير منشأ الكتابة المصرية (كابارت مثالا ) والتي تصور رموزها الأساسية الحياة النباتية والحيوانية للأجزاء الداخلية من أفريقيا خاصة بلاد النوبة وليس مصر السفلى (الدلتا) . يفترض (كابارت) أن الجنس السامي الأبيض الإفتراضي قد جاء من الداخل الأفريقي عبر باب المندب وأستقروا هناك فترة طويلة وعلّموا السكان المحليين الكتابة . مما ورد أعلاه يتبين أنه لا وجود لحقيقة تاريخية تسند هذه النظرية .
إن الهجرات المعروفة التي حدثت في الإقليم كانت متأخرة جدا عن إنبثاق الحضارة المصرية وإبتداع الكتابة الهيروغلوفية . منذ أن كان الهدف هو ذاته الهدف وكان السؤال دائما بأي وسيلة يمكن أن تعزي أدنى ظاهرة من الحضارة في العالم الأسود إلى جنس أبيض ما ، حتى وإن كان جنسا أبيضا أسطوريا ، ففد أستخدمت حتى العمليات الرياضية كالإستقراء . من واقعة الهجرة الحديثة للعاديين السود التي حدثت في القرن الثامن قبل الميلاد في هذه المنطقة ، فإن المرء يفترض أنه يجب أن تكون هناك هجرات سامية مع أننا لا نجد أثرا لذلك . لقد تحولت الفرضية التي هي قيد الدراسة إلى حقيقة وتم حل اللغز. وفقا لنفس المؤلف فإن النظام الطبقي الغريب على الساميين ، كان أساس التنظيم الإجتماعي في سبأ ، بابل ، مصر ، أفريقيا ومملكة (مالابار) في الهند (( إن هذا النظام كوشي بالأساس وحيثما وجدناه ، فإنه من السهل إكتشاف أنه جاء أصلا من ذلك الجنس . لقد رأيناه يزدهر في بابل ، كما أنّ آريي الهند الذين تبنوه ، إستعاروه من السكان الكوشيين الذين سبقوهم بالإقامة في أحواض نهر السند ونهر الجانج )) . أما الختان فقد جرى ممارسته (( يشبه ( لقمان ) الممثل الأسطوري للحكمة العادية - أي من عاد - يشبه (عيسوب) الذي يبدو أن إسمه يشير إلى أصل إثيوبي كما يري (وولكر) . في الهند كذلك يبدو أن أدب القصص والخرافات قد جاء من الـ (سودرا) وهي الطبقة الأدني من الهندوس . ربما بدا هذا النوع من القصص الخرافية الذي تميز بأدوار تلعبها الحيوانات ، غريبا من حيث أسلوبه الأدبي على الكوشيين . يجب ملاحظة أن (لقمان) الذي ينتمي إلى عصر (عاد الثانية) هو أيضا باني سد مآرب الشهير(( والذي تكفي مياهه لري وتخصيب السهول الممتدة على مسافة تقدر بمسيرة سبعة أيام من المدينة .. وأطلاله لا تزال باقية حتى اليوم حيث زارها العديد من السياح وأستقصوا أمرها)) .
في المقابل فإن القحطانيين الذين لم يكونوا عند قدومهم سوى أكثر من همجيين ، لم يدخلوا شيئا سوى نظام القبائل الرعوية والإقطاعية العسكرية (لينورمان – ص 385) . كانت الديانة ذات منشأ تشابه نوعا ما صلاة المسلمين والتي تمارس أثناء ذات المراحل من اليوم وهي كوشية ويبدو أنها إنبثقت من عبادة البابليين وظلت كذلك حتى قدوم الإسلام . لقد كانت آلهة (سبأ) مثل آلهة (بابل) وجميعها ينتسب إلى العائلة الكوشية التي تتبنى الآلوهية المصرية والفينيقية . أما الثالوث فقد إنعكس فقط في بابل (فينوس – الشمس – القمر) . لقد كان للعبادة طابع فلكي واضح ، خاصة العبادة الشمسية فهم يصلون للشمس في مراحل مختلفة من دورتها ، حيث لا وثنية ، تماثيل ، كهنوت . إنهم يتوجهون بدعائهم مباشرة إلى الكواكب السبعة . كانت فترة الصيام التي قدرها (30) يوما موجودة سلفا كما في مصر . كانوا يصلون سبعة مرات في اليوم ووجوهم متجهة نحو الشمال . كانت صلواتهم للشمس تتم في ساعات مختلفة ، الصلاة التي تقلصت عند المسلمين إلى خمسة صلوات إلزامية وصلاتين إختياريتين . كذلك هنا ينابيع وأحجار مقدسة كما في عهود المسلمين : (زمزم) ينبوع مقدس ، (الكعبة) حجر مقدس . أما الحج إلى (مكه) فقد كان موجود سلفا . لقد عرف أن الكعبة بناها (إسماعيل) بن هاجر المصرية (إمرأة سوداء) الجد التاريخي للنبي (محمد) وفقا لكل المؤرخين العرب . كما في مصر فإن الإيمان بالحياة المستقبلية كان سائدا سلفا . لقد جرى تعظيم الأسلاف الموتى . لذا فإن كل العناصر اللازمة لإزدهار الإسلام كانت في المكان المناسب قبل أكثر من 1.000 سنة من ميلاد النبي (محمد) . إن الإسلام سوف يظهر كتطهير للسبأئية بواسطة (رسول الله) .
لذا علينا أن نفهم بأن كامل الشعوب العربية بما فيها النبي قد مزجت بالدم الزنجي . إنّ كل المثقفون العرب مدركون لهذه الحقيقة . إن عنتره البطل الخرافي في الجزيرة العربية هو نفسه هجين من مزيج (( بالرغم من أنهم إلتحقوا بسلسلة نسبهم وتفوق دمائهم فإن العرب المتمدنين أي غير الرحل لم يسلموا من الإختلاط . لقد تسلل الدم الزنجي والذي إمتد إلى كل أجزاء شبه الجزيرة العربية وقدر له أن يغيّر الجنس بكامله ، في أوقات مبكرة جدا من العصر القديم . لقد حدث ذلك أولا في اليمن والتي وضعها موقعها الجفرافي والتجاري في إتصال مستمر مع أفريقيا . أما في الحجاز أو نجد فقد جاء تسلل الدماء الزنجية بطيئا ومتأخرا ، غير أن ذلك حدث في وقت أسبق مما يعتقد . كان عنتره البطل الرومانسي في الجزيرة العربية قبل الإسلام خلاسيا من جهة أمه . بالرغم من ذلك فإن وجهه الأفريقي الكامل لم يمنعه من الزواج بأميرة القبيلة المتفاخرة بنبلها . لذا أصبح من المعتاد أن يحمل هؤلاء الخلاسيون تلك الخلطة . لقد جرى تقبلهم طويلا في أعراف تلك البلاد إلى القرون التي سبقت مباشرة ظهور النبي (محمد) )) .
على عكس (لينورمان) فإننا لم نضع تمييزا بين (الزنجي) و (الكوشي) ، ذلك أنه خارج الإفادات السابقة ليس لأحد القدرة على التمييز بين الإثنين . بناء على ذلك فإنه من المهم تغيير مفاهيمنا عن الساميين ، سوأء أكانوا في بلاد مابين النهرين ، فينيقيا ، أو الجزيرة العربية ، كونهم نتاج لإمتزاج زنجي أبيض . ربما تميّز البيض الذين تهاجنوا مع السـود في تلك المنطقة من غربي آسيا بملامح عرقية معينة مثل أنف الحيثيين . إن الطابع المختلط للغات السامية يمكن تفسيره بذات الطريقة . إنّ هناك جذور مشتركة مع اللغات العربية ، العبرية ، السريانية ، الألمانية . هذه القائمة القصيرة توحي بأن المفردات المشتركة هي أكثر إتساعا مما كان يعتقد . إن عدم وجود إتصال بين شعوب الشمال والعرب خلال الفترات التاريخية يفسر ذلك . إنها قرابة عرقية أكثر من كونها إستعارة .
Arabic English German Ain Eye Auge Ard Earth Erde Asfar Far Beled Land Land Qasr Castle
بالمقارنة هناك كلمات عربية معينة تبدو مصرية الأصل : المصرية العربية ناب : السيد ، سيد المعرفة نبي نحاس (عرفت القبائل السودانية النحاس منذ أوائل العصر القديم) . نحاس را : إله سماوي الرعد با – را – كا البركة
إنه من السخف تفسير نشأة الإمبراطورية الغانية في القرن الثالث قبل الميلاد كمساهمة سامية من اليمن ، إذ كانت اليمن في ذلك الوقت مستعمرة أثيوبية زنجية وظلت كذلك حتى ميلاد النبي (محمد) . على أي حال إذا ما بقينا في عالم الحقائق الدامغة فإنه من المستحيل إثبات أن حضارة أيّ من هذه الأقاليم كانت سابقة لحضارة مصر . إنه من غير الممكن تفسير الأخير بالأول . إن الطرق الإشعاعية الحديثة المستخدمة في تحديد تاريخ الآثار والأغراض سوف تقدم دلالة ومعنى ، فقط إذا نجحت في تحديد تاريخ عمل الإنسان على المادة وليس عمرالمادة المستخدمة . إنه سوف يكون من السهل العثور على حطام نبات في أي مكان في الأرض يعود تاريخه إلى أوائل عصر لما قبل التاريخ . إننا نشير هنا إلى الطريقة الأمريكية القائمة على الحقبة المتناقصة للكربون الإشعاعي (سي) .
[/rtl]
salih sam
لـــواء
الـبلد : المهنة : College studentالمزاج : اللهم سلم السودان و اهل السودان التسجيل : 09/05/2011عدد المساهمات : 7924معدل النشاط : 6296التقييم : 271الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 17:42
[rtl](8) ...........[/rtl] [rtl] الفصل السادس[/rtl] [rtl]الجنس المصري كما رأه وتناوله علماء الأنثربولوجيا[/rtl] [rtl]
بما أنّ هذه المشكلة أنثربولوجية بالأساس فإننا نتوقع من علماء الأنثربولوجيا حلها بحقائق إيجابية وقاطعة . إن الطبيعة التعسفية للمعايير المستخدمة لن تنتج عنها إستنتاجات مقبولة وتطرح في المقابل الكثيرمن (التعقيدات البحثية) التي تجعلنا نتعجب أحيانا لعدم تجاوزها تماما ليكون الحل أسهل . مع أنّ الإستنتاجات التي خرجت بها الدراسات الإنثربولوجية غير واقعية ، إلا أنها مع ذلك شهدت بشكل ساحق بوجود الجنس الأسود منذ أقدم عصور ما قبل التاريخ إلى عهد الأسرات الحاكمة . إنه من المستحيل الإستشهاد بكل الإستنتاجات هنا ، غير أنّ الدكتور / إيميل ماسولار قام بتلخيصها في الفصل العاشر من مؤلفه (ما قبل التاريخ وما قبل ظهور الكتابة في مصر – معهد الأتنولوجيا – باريس – 1949) . هنا بعض الإستنتاجات (ص 402 – 403) :
(( تعتقد الآنسة فاوست أن جماجم (نقاده) متجانسة بما يكفي للحديث عن (جنس نقاده). مع إرتفاع الجمجمة ، إرتفاع الأذنين ، طول وعرض الوجه ، إرتفاع الأنف ، معالم الرأس والوجه فإن هذا الجنس يكشف عن ملامح متشابهة مع الزنوج وأيضا مع عرض الأنف ، علو محجر العين ، طول الحنك ، مؤشر الأنف فإنه يظهر ملامح متشابهة مع الجرمان . ربما يشبه نقادة ما قبل عهد الأسرات الزنوج في بعض الملامح وربما يشبهوا البيض في ملامح أخرى )) . إن الملامح العامة للزنوج وجنس النقاده المصري قبل عهد الأسرات الحاكمة ، هي ملامح أساسية بالمقارنة بتلك التي يشتركون فيها مع الجرمان . إذا كان علينا أن نحكم بمؤشر الأنف بالنسبة لسلالتين سوداوين : الإثيوبيين والدارافيديين ، فإننا علينا كذلك أن نقدم ملامح متشابهة مع الجرمان . بجعلنا معلقين بين هذين الطرفين : الجنس الأسود والجنس الجرماني ، فإن المقاييس تشير إلى مرونة المعايير المستخدمة . دعنا نقتبس واحدا من هذه المعايير :
(( لقد سعى (تونسون) و (راندال) لتحليل أهمية العامل شبه الزنجي في سلسلة الجماجم الـ (أمره) ، (أبيدوس) والـ (هو) بشكل أكثر دقة . لقد قسموا الجماجم إلى ثلاثة مجموعات : (1) جماجم شبه زنجية : ( لها مؤشر وجه أقل من 54 ومؤشر أنف فوق الـ 50 أي ذات وجه عريض ومنخفض وأنف واسعة ) . (2) جماجم ليست شبه زنجية : ( لها مؤشر وجه أكثر من 54 ومؤشر أنف تحت الـ 50 ، أي ذات وجه طويل ورقيق وأنف ضيقة ) (3) جماجم وسيطة ( وهذه تنتمي إليها واحدة من المجموعتين الأوليتيين من خلال مؤشر وجهها وإلى المجموعة الأخرى من خلال مؤشر أنفها ، إضافة إلى أؤلئك الذين في الوسط بين المجموعتين ) . في الحقب القديمة لما قبل عهد الأسرات فإن نسبة شبه الزنوج كانت 24% بين الرجال و 19% بين النساء ، أما في الحقبة المتأخرة لما قبل عهد الأسرات فقد كانوا 25% و 28% على التوالي )) .
من جهته إعترض (كيث) على شرعية المعيار الذي إستخدمه كل من (تومسون) و (راندال) للفصل بين الجمجمة الزنجية وشبه الزنجية وهو يرى أنه إذا قدر فحص أي سلسلة من جماجم الإنكليز اليوم بنفس المعيار لوجد أن 30% منها تعود لجماجم شبه زنجية . في المقابل يمكننا القول أنه إذا طبق نفس المعيار على (140) مليون زنجي في أفريقيا السوداء اليوم لوجد أن (100) مليون منهم على أقل تقدير (بيضا) وفقا لذلك المقياس . علاوة على ذلك فإن الفرق بين الجماجم شبه الزنجية ، غير شبه الزنجية والجماجم الوسيطة غير واضح . في الواقع فإن شبه الزنجي ليس مكافئا للأبيض مثلما هو الوسيط . من جهته واصل (فالكينبيرجر) دراسة أنثربولوجية في دراسة جديثة إرتكزت على 1.787 جمجمة لذكور إلى أوائل عهد ما قبل الأسرات حتى اليوم وقد إستطاع تمييز أربعة مجموعات رئيسية (نفس المصدر ص 421) . لقد جرى توزيع جماجم ماقبل عصر الأسرات بين المجموعات الأربعة على النحو التالي : ((36 % شبه زنجية ، 33% من البحر المتوسط ، 11% ماكرو – مانونيين ، 20% لا ينتمون إلى هذه الفئات الثلاثة ولكن ينتسبون إما إلى الماكرو – مانونيين (النوع أيه سي) أو شبه الزنوج (النوع بي سي) . تبدو نسبة شبه الزنوج أعلى بشكل واضح من تلك التي وضعها كل من (تومسون) و (راندال) والتي مع ذلك وجدها (كيث) مفرطة في الزيادة . هل كانت إحصائيات (فالكينبيرجر) واقعية ؟ إننا لا نملك أن نقرر ذلك . إذا كانت هذه الإحصائيات دقيقة فإن سكان ما قبل عهد الأسرات كانوا يتألفون من ثلاثة عناصر عرقية مختلفة وليس من جنس نقي كما ذهب إلى ذلك (إيليوت سميث) وهم على النحو التالي : أكثر من الثلث شبه زنجي ، ثلث من البحر المتوسط ، عشر من الكرو – مانونيين وخمس من مزيج من هؤلاء بشكل أكبر أو أقل (نفس المصدر ص 422) .
بالرغم من الإختلافات في هذه الإستنتاجات فإنها تشهد بالأساس الزنجي للشعب المصري في عهد ما قبل الأسرات وهي لا تنسجم مع الفكرة القائلة بأنّ السود لم يتسللوا إلى مصر إلى وقت متأخر ، بل العكس إذ تثبت الحقائق أن الجنس الأسود كان مهيمنا منذ بداية التاريخ المصري وجتى نهايته ، خاصة حينما أضيف بأن كلمة (متوسطيين – نسبة للبحر المتوسط ) ليست كلمة مرادفة للجنس الأبيض . عوضا عن ذلك ربما تمت الإشارة إلى عبارة (إيليوت سميث) ( الجنس الأسمر أو المتوسطي) : (( لقد جعل إيليوت سميث هؤلاء المصريين القدامى فرع مما يسمى بالجنس الأسمر الذي ليس سوى جنس البحر المتوسط أو الجنس الأوروبي الأفريقي حسب تعريف سيرجي )) – نفس المصدر 418 . إن نعت (أسمر) هنا يتعلق بلون البشرة وهي توريه تشير إلى الزنجي فقط . لذا فمن الواضح أن كامل الجنس المصري كان زنجيا مع تسلل لقبائل بيضاء بدوية خلال الفترة العمرية .
من جهة أخرى تكشف دراسة لـ (بتري) عن الجنس المصري عن إمكانية واسعة لتصنيف سوف يدهش القاريء بالتأكيد : (( لقد نشر (بتري) دراسة عن الأجناس في مصر في عصور ما قبل الأسرات والأسرات الأولى ، أخذا تصوراته فقط في الحسبان . إضافة إلى الإكتناز فقد ميّز ستة أنواع مختلفة : النوع النسري سمة الجنس الليبي الأبيض البشرة ، النوع ذو اللحية المجدولة وينتسب إلى سلالة الغزاة الذين ربما جاءوا من شواطيء البحر الأحمر ، النوع ذو الأنف المدببة والذين جاءوا بلا شك من الصحراء العربية ، النوع ذو الأنف المائل الآتي من مصر الوسطى ، النوع ذو اللحية الملتصقة والمتقدمة إلى الأمام وينتسب إلى مصر السفلى ، النوع ذو الحاجز الأنفي المستقيم وهذا النوع ينتسب إلى مصر العليا . من واقع هذه التصورات فإنه يمكن الحكم بأنه كانت هناك سبعة أنواع عرقية في مصر خلال الحقب التاريخية التي درست . في الصفحات التالية سوف نرى دراسة للجماجم تصادق بالكاد على هذه الإستنتاجات )) – نفس المصدر ص 391 .
إن التصنيف يظهر لنا كيف أن العبث وعدم الجدية كانت هي المعايير التي أستخدمت لوصف الجنس المصري . في الواقع كنت قد عزمت على القيام بفحص مجهري لكثافة المسامات للآدمة الخارجية للمومياءات ، غير أن محدودية عيناتها لم تمكن من تقديم إستنتاج صحيح ، يستند على نطاق يشمل كامل سكان مصر . على أي حال يمكننا أن نفهم بأن الأنثربولوجيا قد فشلت في إثبات وجود أي جنس مصري أبيض ، أما إذا كان هناك أي شيء أخر فهو إثبات للعكس . بالرغم من ذلك ومع أن المشكلة قد كبتت في الكتب المدرسية الحالية ، إلا أنه في معظم الأحوال كان يتم التأكيد على أن المصريين كانوا بيضا ولذلك فإن الأشخاص العاديين أخذوا الإنطباع بأن هذا التأكيد يفترض أن يكون قد قام على دراسات راسخة أجريت سابقا وهو أمر غير صحيح كما رأينا . إن هذا هو السبب في أن عقول كثير من الأجيال جرى تعميتها . (( في الجنوب عند المربع الشمال الغربي يقع العالم الأفريقي الأسود المحتشد ، تفصله عن الجنس الأبيض صحراء يتعذر إجتيازها والتي تشكل جزء كبيرا من الأراضي الجنوبية المنبسطة . لذا ولكونهم معزولين وغير مهيئين بفعل الحياة الإستوائية لأي تدخل فعال بين البيض ، فإن الشعوب الزنجية وشبه الزنجية ظلت بدون تأثيرعلى تطور حضارتهم الباكرة . من هذا يمكننا أن نستبعد الجنسين الخارجيين معا – المنغوليين في الشرق وشبه الزنوج في الجنوب – من أي مشاركة في أصول الحضارة أو تطور لاحق لها )) .
إن هذا نموذج للإفادات الحالية في الكتب المدرسية . إن الطبيعة الإستبدادية لـ (بريستيد) لا يعادله سوى غياب أي أساس يرتكز عليه ، حيث وقع المؤلف في تناقضاته زاعما من جهة أنّ الصحراء كانت على الدوام تمثل حاجزا بين الزنوج ونهر النيل ، فيما أورد من جهة أخرى أن هذا الوادي كان طريقهم الوحيد إلى الشمال . إن إلقاء نظرة على خريطة أفريقيا تبين أنه يمكن للمرء أن يصل إلى وادي النيل من أي مكان في القارة دون المرور بالصحراء . يستمد (بريستيد) أفكاره من مفهوم خاطيء يتعلق بإعمار القارة سكانيا . بدلا من الإعتقاد بأن السود قد تواجدوا في كافة القارة وعمدوا إلى الركون في مجموعات صغيرة بينما كانت الحضارة المصرية تتقدم ، فإن قدرا كبيرا من الأدلة يجعلنا نميل للإعتقاد بأن السود قد عاشوا في هذا الوادي بداية قبل أن ينتشروا في كل الإتجاهات في هجرات متتالية . لقد شهدت بذلك أيضا البيانات الأنثربولوجية التي أستشهد بها سابقا ، مما يشير إلى وجود الزنوج في وادي النيل منذ أقدم عصور ما قبل التاريخ . كما أنّ الطبيعة الزنجية للحضارة المصرية – كما أعترف بها اليوم – تستبعد أي إحتمال لأن تكون هذه الحضارة حكرا على الجنس الأبيض . هناك العديد من الكتاب إلتفوا حول هذه المعضلة بالحديث عن البيض ذوي البشرة الحمراء أو البيض ذوي البشرة السوداء . إن ذلك لا يبدو متناقضا بالنسبة إليهم لإعتقادهم بأنه لا وجود لأي إمكانية لأن تكون الجضارة سوداء . (( بالنسبة للأغاريق فإن إفريقيا هي ليبيا . إن هذا التعبير غير دقيق أصلا لأن الكثير من الشعوب عاشت هنا ، بجانب ما يسمى بالليبيين الذين شكلوا قسما من البيض في الحدود الشمالية أو عند البحر الأبيض المتوسط إن شئت وهم بذلك يتميزون عن عدد كبير من البيض الذين لهم بشرة سمراء أو حمراء - المصريون )) .
في كتاب مدرسي للصف الثامن قرأنا (( إن الأسود يميز بلون بشرته – هناك بيضا ببشرة سوداء – أكثر من أن يميز بملامجه : الشفاه الغليظة ، الأنف المفلطحة ، الخ ..)) بهذه التعريفات المماثلة يمكن للمرء أن يجعل الجنس المصري أبيضا وهذا أنصع برهان على سواده . إن موقف (بريستيد) في مشكلة الجنس المصري هو ذاته الذي تبناه علماء الآثار المصريون المعاصرون الذين أطلعوا على الموضوع بشكل أفضل ممن سبقوهم غير أنهم ببساطة تفادوا الموضوع بتقديم القليل من الأفادات التي بدت كما لو أنها مدعومة ببيانات علمية سابقة . إنه إحتيال فكري . هنا ينتهي الجزء النقدي من هذا القسم . في الفصول الأولى كنّا قد ناقشنا العديد من الأطروحات التي تتعلق بأصل الجنس المصري . إن كل واجدة من هذه الأطروحات تنتمي إلى واحدة من الأنواع الموجزة أعلاه . لقد إخترتها ليس لأنها مقدمة من مرجع ما أوغيره ولكن لأنها قدمت بكثير من التفاصيل التي تمكننا من عرض التناقضات التي لا يمكن تجاوزها . بالتالي فإن هذه المراجعة مكتملة تماما . إن الصورة الكاملة التي أظهرت الفشل العام لأؤلئك الذين حاولوا الوصول لأهدافهم ، لم تحتوي على أدنى عنصر قابل لإقناع القاريء . إننا ننتقل الآن إلى الجزء البناء من هذا الكتاب وتقديم الحقائق المختلفة التي تثبت الأصل الزنجي لقدماء المصريين .
الفصل السابع الحجج التي تؤيد زنجية منشأ الحضارة
* الطوطمية (عبادة الوثن) : في كتابه ( من القبيلة إلى الإمبراطورية ) شدّد (موريه) على الطبيعة المرتبطة بعبادة الوثن للمجتمع المصري . لقد جرى الإعتراض على أطروحته لاحقا كما لو أنّ نتائج فادحة ستنجم عنها حتما . كأمر واقعي فإن (فريزر) كان حاسما في منشأ الطوطمية ، فقد أصر على أنه وجدها فقط لدى السكان الملونين . في الواقع فإنه ليس هناك سبيل لقبول فرضيته إذا ما إرتجي أحد إثبات المنشأ الأبيض للحضارة المصرية . لذا فإن على المرء أن ينكر الطوطمية المصرية بينما عليه أن يتعقب آثارها لدى ما يسمى بالسكان الملونين مثل البربر والطوارق . إن الحماسة التي صبغت البحث في هاتين المجموعيتن – إن كان البحث ناجحا – تثبت إنه لم يعد هناك أي شك بشأن الطوطمية المصرية ، فيما فشلت محاولة خلعها على أخرين : لم يكتشف أرنولد فان قينيب ( 1873 - 1957) من جهته أي طوطمية لدى البربر . لقد إنحرف الجدل في النهاية ليؤول إلى تجريد فلسفي : حيث تحولت البيانات العرقية الجغرافية المتماسكة إلى مادة للتفكير ، إلى مشكلة في المنطق ، إلى تأمل محض ، ليصبح ذلك مربكا بالتضمين . من غير الخوض في الفلسفة فإنه من غير الممكن إنكار صفة (المحرمات) العائدة لحيوانات ونباتات معينة في مصر والتي تماثل تلك الطوطمية الموجودة على إمتداد أفريقيا السوداء . بالمقارنة فإن هذه (المحرمات) كانت تعتبر غريبة بالنسبة للأغاريق والهنود الأوربيين الذين ليست لديهم معرفة بالطوطمية . عليه فإن الأغريق كانوا يسخرون من التبجيل الزائد من قبل المصريين لحيوانات ونباتات معينة .
بعد مراحل معينة من التطور الإجتماعي الذي ربما هو أقل من مستوى التطور إضافة إلى الإختلاط الذي حدث لسكان مصر ، فإن زواج الأقارب والطوطمية لم يصبحا أمرا إستثنائيا بل تواجدا معا . لذا فإنه اليوم في أفريقيا السوداء فإن بعض الأزواج والزوجات يحملن نفس الإسم الطوطمي : نيدياي ، ديوب ، فال ، الخ .. واليوم لا يمكن أن يخطر على بالهم أن هذه الممارسة كانت من المحرمات . لذا فإن كلا الزوج والزوجة كانا يدركان تماما بأنهم أجزاء حيوية من جوهر ذات الطوطم ، بمثل ما يدركان مشاركتهما نفس جوهر الحيوان وإنتسابهم إلى ذات القبيلة ، بالقدر الذي يذّكرهم بهذه الحقيقة في الغالب. بناء عليه فإن فكرة (فان قينيب) القائمة على أن المصريين كانوا غالبا ما يتزوجوا أقاربهم الأقرب خاصة أخواتهم وهي فكرة لا يمكن أن تكون طوطمية ، قد رفضت هنا بشكل قاطع . إن الزواج بالأخت مستمد من سمة ثقافية أخرى في العالم الأسود (النظام الأمومي) سوف تناقش لاحقا .
حينما كان زواج الأباعد ساريا ، نشأ أخيرا نوع من العلاقات بين العشائر التي تعقد الزواج بين عشيرة وأخرى ( إثنين ، ثلاثة ، أربعة أو يزيد) . إن تذكر تلك العلاقة يمكن أن تفسر اليوم بالـ (خال) مثلا وهي علاقة عشائرية إفتراضية في مجتمع (الوولف) تبيح السخرية المتبادلة . بالرغم من الدراسات التي حاولت التوسع في فكرة الطوطمية ، إلا أنه يمكن القول – مع فريزر – أنها كانت غائبة في الشعوب البيضاء ، مع أنها ظهرت جلية في القبائل البيضاء الأخيرة التي إجتاحت أوروبا في القرن الرابع . لقد كانت هذه الشعوب في مرحلة (العشيرة – القبيلة) حينما غلّفت الطوطمية كل ممارسات الحياة وأصبح حضورها واضحا على كل مستويات التنظيم الإجتماعي . لم يكن هناك شيء في حياة تلك القبائل يعكس العلاقة البيولوجية بين الإنسان والحيوان سواء بالمغنى الفردي أو الجماعي . بالمقارنة فإنه لا يمكن إنكار أن الفرعون شارك في جوهر الحيوان (الصقر) مثلما نفعل نحن اليوم في أفريقيا السوداء .
الختان : لقد مارس المصريون الختان في عصور ما قبل التاريخ وقد إنتقلت هذه الممارسة إلى العالم السامي عموما (يهودا وعربا) ، خاصة بالنسبة لأؤلئك الذين سماهم (هيرودتس) سوريين . لإظهار أن الكولخيسيين كانوا مصريين ، يستشهد (هيرودتس) بهاتين الدلالتين : (( إن حدسي الخاص كان مؤسسا ، أولا على الحقيقة التي مفادها أنهم سود البشرة ولهم شعر أصوف . ثانيا أن الكولخسيين ، المصريين ، الأثيوبيين هي الشعوب الوحيدة التي مارست الختان منذ عصور قديمة ويعترف الفينيقيون وسوريو فلسطين بأنهم تعلموا الختان من المصريين ، كما أن السوريين الذين سكنوا حول أنهار (ترميدون) و(بانينوس) وجيرانهم الماكرونيين يقولون بأنهم قد تبنوا هذا العادة من الكولخيسيين منذ وقت قريب . اليوم فإن هذه الأمم هي فقط التي تمارس الختان ومن الواضح أن جميعهم يقلد المصريين )) . بإتفاق كل الأراء المنطقية فإنني أطلق كلمة زنجي على كل إنسان ذو بشرة سوداء ، خاصة من له شعر مجعد . إن كل من يقبل هذا التعريف سوف يدرك أن الختان ذو منشأ مصري وإثيوبي – مثلما رأى ذلك هيرودتس – وأن المصريين والإثيوبيين لم يكونوا سوى زنوجا سكنوا أقاليم مختلفة . عليه : يمكننا فهم ممارسة الساميين عادة الختان بالرغم من الحقيقة التي مفادها أنّ تقاليدهم لم تقدم تبريرا شرعيا لها . إن ضعف البراهين في سفر التكوين تبدو نمطية : طلب الرب من (إبرام) ولاحقا (موسى) أن يختتنا إشارة إلى العهد معه ، بدون تفسير أن الختان المحتسب من وجهة نظر التقليد اليهودي ، يمكن أن تؤدي إلى فكرة التحالف . إن ذلك كله أكثر مدعاة للإهتمام لإنه قد زعم أن (إبرام) إختتن وهو في التسعين من عمره . في مصر تزوج (إبرام) هاجر إم (إسماعيل) وهي إمرأة سوداء و (إسماعيل) وهو جد العرب الفرع السامي الثاني بحسب الكتاب المقدس . لقد عرف عن (إسماعيل) أنه الجد التاريخي للنبي (محمد) . (موسى) كذلك تزوج إمرأة من (مدين) وفيما يتصل بزواجه طلب منه الرب أن يختتن . ما يجب ملاحظته في هذا القصص الأسطورية هي فكرة أن الختان دخل بين الساميين أولا نتيجة للإتصال بالعالم الأسود وهو أمر يتطابق مع شهادة (هيرودتس) .
إنه في عالم السود فقط يمكننا أن نجد أن للختان تفسير يتكامل مع التفسير العام لعلم نشأة الكون ، خاصة مفهومه عند (الدوجون – شعب يعيش في غرب أفريقيا) كما أورد ذلك (مارسيل جرياول) ، ففي كتابه (إله المياه) يذّكرنا بأن البتر لا بد أن يترافق مع الختان . في العمليتين يزال شيء أنثوي من الرجل ويزال شيء ذكوري من الأنثى . يقصد بهذه العملية بحسب العقلية القديمة إلى تعزيز الطبيعة الغالبة لجنس واحد عند شخص معين . وفقا لمفهوم علم الكون عند (الدوجون) فإن المولود الجديد هو خنثوي إلى حد معين مثل الإله الأول . طالما جرى الإحتفاظ بالغلفة والبظر التي هي دلالات الجنس المقابل للجنس الظاهر ، فإن الذكورة والأنوثة يكون لهما نفس القوة . لذا من غير الصحيح إعتبار المختون إمرأة ، أي مثل الفتاة التي لم تجر لها عملية البتر، مما يعني أنه ذكر وأنثى معا . إذا إستمر هذا التردد في حسم جنسه ، فإنه (إنها) لن يكون لديه إهتمام بالإنجاب . إذن هذه أسباب مختلفة للختان والبتر : الحاجة لتحليص الطفل من قوة شريرة.
لكي يكون هذا التفسير للختان صحيحا فإن الخنثوية المفترضة في الإله والتي هي السبب التقليدي لهذه الممارسة في المجتمع الأفريقي ، يجب أن تكون موجودة كذلك في المجتمع المصري . عندها يمكننا فقط التبرير في تعريف الدواعي الطقسية للختان بين المصريين وفي باقي أفريقيا السـوداء . في الواقع فإن (شامبليون) الأصغر كتب في رسائله إلى (شامبليون – فيجاك) عن الخنثوية الإلهية لـ (آمون) ، الإله الأعلى للسودان المروي ومصر (( آمون هو نقطة الإنطلاق والنقطة المركزية التي تتوحد فيها كل الخلاصات الإلهية . إن (آمون رع) هو الكائن الأصلي الأسمى ولأبيه الذي يعرف بزوج أمه ، قسمه الأنثوي المضمن في جوهره الخاص الذي هو ذكر وأنثى )) . في المقابل فإن النيل كان يمثل بشخصية أنثوية . لقد كان (آمون) كذلك إله كل أفريقيا السوداء . يمكن القول أن (آمون) قد إرتبط بفكرة الرطوبة في كل من السودان المروي ، أفريقيا السوداء ، مصر وصفته في كل هذه البلاد هي الكبش . لذا وفي كتابه (إله المياه) وحينما كتب (مارسيل جرياول) عن (آما) إله (الدوجون) فإن هذا الإله ظهر في شكل الإله – الكبش مع ثمرة يقطين (قرع) بين قرنيه . في مفهوم نشأة الكون لدى (الدوجون – السودان الفرنسي) فإن (آمون) يهبط من السماء على قوس قزح كرمز للمطر والرطوبة . مع أنّ بعض السود تخلوا عن الختان من خلال نسيان عاداتهم أو لأسباب مختلفة أخرى ومع أن هناك إتجاه متزايد في أفريقيا السوداء نحو التبرؤ من البتر الختاني ومع أن الختان عملية مختلفة من الناحية الفنية بالنسبة للمصريين والساميين ، إلا أنه لم يغيّر من أساس المشكلة . لكي يكون التعريف مكتملا والحجة مقنعة ، فإن البتر يفترض أن يكون موجودا في مصر كذلك . لقد أخبرنا (سترابو) بذلك : (( لقد إهتم المصريون بشكل خاص بتربية أبنائهم وختان أولادهم وحتى فتياتهم وهي عادة مشتركة مع الشعب اليهودي الذي إنبثق أصلا من مصر كما لاحظنا حينما ناقشنا ذلك الموضوع )) – الكتاب (17) – الفصل (1) – الفقرة (29) .
الملكية : يعتبر مفهوم الملكية أحد المؤشرات الأكثر إثارة للتشابه في التفكير بين مصر وباقي أفريقيا السوداء . لندع جانبا تلك المباديء العامة مثل الطبيعة المقدسة للملكية والتشديد على سمة نموذجية بسبب غرابتها والمتمثلة في القتل الطقسي للملوك . في مصر لم يكن للملك أن يعتلي العرش إلا إذا كان في صحة جيدة ، غير أنه يقتل عندما تتراجع قوته ، لكن سرعان ما لجأت الملكية إلى وسائل عديدة لتفادي ذلك . كان الملك متحمسا للمحافظة على إمتيازات منصبه مع المعاناة بأقل قدر ممكن من المضايقة . لذا فقد أصبح الملك قادرا على تحويل الحكم المميت ليصبح حكما رمزيا بحيث أصبح القتل الطقسي للملك يتم رمزيا حينما يشيخ في العمر ، فبعد إجراء الإختبار الرمزي الذي يعرف بـ (مهرجان السيد) يعتبر ذات الملك (المتجدد الشباب) برأي شعبه مؤهلا مرة أخرى للإضطلاع بمهامه . بناء عليه فإن (مهرجان السيد) كان إحتفالا بتجديد شباب الملك : لقد أصبح الموت الطقسي وتجديد شباب الحاكم مترادفين ، بحيث يجريان في ذات الإحتفال . (شارل سيلقمان – مصر وأفريقيا الزنجية : دراسة في الملكية الإلهية – لندن – روتليدج – 1934) .
لقد إفترض كذلك أن يكون الملك الشخص المبجل الذي يكافيء التفوق أن يكون ذو قوة أو طاقة عظيمة في الحياة وحينما تتهاوى تلك القوة إلى حد أدتى معين فإن ذلك سيكون مخاطرة لشعبه إن إستمر في الحكم . إن هذا المفهوم الحيوي هو الأساس لكل الممالك التقليدية الأفريقية ، أعني كل الممالك غير المغتصبة . أحيانا يعمل ذلك المفهوم بشكل مختلف ففي السنغال مثلا فإن الملك لا يستطيع أن يحكم إذا ما تلقى جراحا في معركة ففي هذه الحالة يحل محله أخر حتى يتعالج ، بحيث يكون ذلك الشخص أخيه من ناحية الأب وأمه من عامة الناس ، مثل (لات – سكوبيه) الذي أبتدر سلالة حاكمة تعرف بأسرة (جيدج) في حوالي عام 1697 . إن ممارسة إستبدال الملك متى ما تدهورت قوته ، ممارسة مستمدة بشكل جلي من معتقدات حيوية موجودة على إمتداد القارة السـوداء . وفقا لهذه المعتقدات فإن خصوبة التربة ، وفرة الغلال ، صحة الشعب وقطعان الماشية ، التسلسل الطبيعي للأجداث وكل ظواهر الحياة ، مرتبطة بشكل وثيق بإمكانية القوة الحيوية للحاكم .
مفهوم نشأة الكون : تتشابه المفاهيم الزنجية - أفريقية ومصرية - والمتعلقة بنشأة الكون بشكل وثيق ، بحيث تبدو في الغالب متكاملة . لفهم مفاهيم مصرية معينة ، لابد من الإشارة إلى العالم الأسود كما جرى التوثيق لذلك من خلال ما سميناه بالملكية . في الحالة الأخيرة يكفي قراءة دراسة الأب تيمبلز (فلسفة البانتو) – نشر مترجما في مطبوعة الوجود الأفريقي عام 1959) والتي قدم فيها تحليلا مرتبا للحيوية الزنجية والتي تخدم – وفقا لتيميلز – كأساس للتصرفات اليومية للبانتو . لقد شدد العديد من المؤلفين على هذا التشابة في الأعراف ، العادات ، التقاليد والتفكير بما يكفي . ربما يستغرق الأمر أكثر من مدى العمر لتعداد كل التشابهات بين مصر والعالم الأسود من تطابقهما . لقد شدّد (بول ماسون – أورسيل) على الطابع الزنجي للفلسفة المصرية : (( بقبولها – أي الفلسفة المصرية – فإن العقلانية التي أنجبت سقراط ، أرسطو ، إقليدس ، أرخميدس ، تطابقت مع العقلية الزنجية التي فهمهما عالم الآثار المصري كخلفية لتهذيبات الحضارة التي أدهشته . بالتجاسر بتفسير ما يفترض أن يكون - الجانب الزنجي من العقل المصري – فإنه يمكننا إستخدامه لتفسير ماهو أكثر من سمة ثقافية واحدة )) .
إنّ هذه الهوية المصرية والثقافة الزنجية ، أو الأصح هذه الهوية ذات البنية الفكرية كما رأى ذلك ماسون – أورسيل ، تجعل العقلية الزنجية السمة الأساسية للفلسفة المصرية . إن وحدة الثقافة المصرية والزنجية لم ترد بشكل أكثر وضوحا . بسبب هذه الشخصية الجوهرية للعبقرية ، الثقافة ، الجنس ، فإنه يمكن لكل الزنوج اليوم أن ينسبوا بشكل شرعي ثقافتهم إلى مصر القديمة وأن يبنوا ثقافة جديدة على هذا الأساس . إنّ الإتصال الفعال والحديث مع تاريخ مصر القديم سوف يمكّن السود من أن يكتشفوا يوما بعد يوم وبشكل متزايد العلاقة الحميمة التي كانت قائمة بين كل السود في القارة ووادي النيل الأم . من خلال هذا الإتصال الحميم فإن الإنسان الأسود سوف يقتنع بأنّ كل هذه المعابد ، الأعمدة ، الأهرامات ، المدرجات ، النقوش البارزة ، الرياضيات ، الطب وكل هذه العلوم هي في الواقع من صنع أسلافه وأن له الحق بل الواجب أن يطالب بإرثه هذا . (( من الآن فصاعدا وفي هذا النوع من من البحث ذو الأهمية البالغة لبحث الفكر ، بدأنا ندرك أن جزء كبيرا من القارة السوداء ، قد أسقط بتأثيره في أتجاهات متعددة على مناطق عرف عنها الإنعزال الكبير كالصحارى والغابات - عكس ما أفترض عنها سابقا بأن أهلها همجيون وغير مهذبون – وهو تأثير جاء عبر النيل ومرّ عبر ليبيا ، بلاد النوبة ، إثيوبيا )) .
فيما يتعلق بعملية تجسيد أوكتاد وإينيد ( الأسلاف المبجلين الثامن أو التاسع ) لدى الدوجون وأوكتاد وإينيد المصري فمن الضروري إعادة طرح كامل صفحات كتاب (إله المياه) لـ (جرياول) . في كلا الحالتين فإن الأزواج الأربعة جاءوا من الإله الأصلي فهم موجدي الخلق والحضارة . إن ذلك يوحي بكيفية أن غدا الرقم ثمانية أساس للنظام العددي للدوجون وبالتالي أصبح (80) معادلا لـ (100) و (800) معادلا لـ (1000) . إن ذلك يساعدنا أيضا في أن نفهم كيف أن عبادة الأسلاف أصبحت أساسا لمفهوم نشأة الكون في أفريقيا السوداء كما في مصر . بينما إنفصل الأسلاف الأكثر بعدا بطريقة ما مثل بخار ليصلوا إلى السموات ، فإن الأقربون الذين لم تطمس ذكراهم شكلوا عائلة هي بمثابة نصف الآلهة . مع قدوم الدورات التاريخية وحينما لم يعد الحرص في تسجيل الأحداث يتيح تسجيل الأحداث المبهمة ، فإن عملية التآليه أصبحت محصورة نوعا ما . لقد إستمرت عبادة الأسلاف ، غير أنها منذ ذلك الوقت ظلت شخصيات تاريخية بشكل أكثر أو أقل .
من جهة أخرى يمكننا كذلك التشديد على التشابة بين الإله الثعبان للدوجون والإله الثعبان في البانثيون المصري فكلاهما يرقص في الظلام . في الواقع فإن (أميلينو) أشار إلى الإله الثعبان بأنه يدعى (الذي يرقص في الظلمات) وهو بذلك يشير إلى الثعبان الذي ورد على نقش لتابوت في متحف مرسيليا ، نقش يصاحبه تصوير لمقبرة أوزيريس ( دراسة الديانة المصرية – ص 41) . في بانثيون (الدوجون) نجد أن السلف السابع الذي تحول إلى ثعبان ، قد قتل بواسطة رجاله ودفنت رأسه تحت وسادة الحداد . من هذا القبر نهض السلف – الثعبان ليرقص تحت الأرض (أي في الظلام) متحركا نحو مقبرة الرجل الأقدم سنا لإلتهامه . يمكننا التشديد على هذه السمة كإشارة محتملة لطقس أكل الإنسان ، مثل ذلك الطقس الذي وجد في مصر في البداية والذي ربما أستمد من المباديء الحيوية للأساس الذي شكّل المجتمع الزنجي . بإستيعاب جوهر الطقوس الأخرى فإن المرء يكتسب قوتها الحيوية وهذا يزيد من مناعته ضد القوة التدميرية في الكون . بذات الرمزية يمكننا أن نقارن الإله إبن آوى المرتكب لزنا المحارم في بانثيون (الدوجون) بالذي يقابله لدى المصريين ، فهو حارس البركة التي يفترض أن يتطهر فيها الموتى . أخيرا فإنه يمكن القول بأن الأهمية التي تخلع على علامات البروج الفلكية في مفهوم نشأة الكون لدى (الدوجون) تستحق الإهتمام . حينما يدرك المرء أن الدوجون يعرفون نجم (الشعرى) فإنه سوف يتذكر أن التقويم المصري كان قائما على الطلوع الشمسي لذلك النجم .
التنظيم الإجتماعي : تتطابق الحياة الإجتماعية الأفريقية مع نظيرتها المصرية بشكل دقيق . في مصر كان نظام الطبقات على النحو التالي : الفلاحون – العمال المهرة – الكهنة ، المحاربين وموظفي الحكومة – الملك . أما في باقي أفريقيا السـوداء فهو على النحو التالي : الفلاحون – الحرفيون أو العمال المهرة – المحاربون والكهنة – الملك .
النظام الأمومي : يعتبر النظام الأمومي هو عماد التنظيم الإجتماعي في مصر وكامل أفريقيا السوداء . بالمقارنة لا يوجد هناك أبدا أي دليل على وجود نظام أمومي في حوض البحر المتوسط في العصر الحجري القديم . لدعم هذه الإفادة فإننا حاجة فقط لأن نستشهد بحجج مؤلف خصص (437) صفحة في محاولة عديمة الجدوى لتبييض أفريقيا السـوداء : (( كان توارث العرش في كانو – نيجيريا – يتم على أساس النظام الأمومي وهو إرث مستمد من حوض البحر المتوسط في العصر الحجري القديم – حتى عصر هيمنة الفولاني . لقد أخبرنا بأن ملكة دوارا كان لها ثور يركب وهذا يذكرنا بعادات الجارامانت القدماء – الليبيين – وهكذا فإننا نتواجه مرة أخرى بأفريقيا البيضاء القديمة بنظامها الأمومي وهو النظام الذي يتصل بشكل وثيق بشعوب كردفان – السودان – والنوبة بما في ذلك التيدا والطوارق ، بالإضافة إلى ملوك السودان الغربي )) – بومان – نفس المرجع – ص 313 .
سوف نلاحظ أن هذه الإفادات التي تتساوى فيها جديتها مع غموضها ، نابعة من حقيقة واحدة غير هامة وهي أن ملكة دوارا ركبت ثورا ، فيما عمل (بومان) على تبييض حتى ملوك السودان الغربي ، متوافقا مع الطريقة النازية المعروفة التي تفسر وجود أي حضارة أفريقية بوجود نشاط لجنس أبيض أو لذريته ، حتى إذا كان علينا أن نقر بأن هناك سودا (بيضا) أو بيضا ذوي (حمرة داكنة) مدرجين تحت المصطلح التقليدي (حاميون) كانوا موجودين . إذا كان النظام الأمومي قد ورث من بعض شعوب حوض المتوسط في العصر القديم لأستمر طوال العهود الفارسية ، الإغريقية ، الرومانية ، المسيحية وأستمر حتى يومنا هذا في أفريقيا السـوداء ، غير أنه ليس كذلك وبشكل واضح . للإستشهاد فإن (كريوس) عيّن مقدما إبنه الأكبر (قمبيز) الذي قتل شقيقة الأصغر لإبعاده عن التنافس على الحكم . في اليونان كانت الخلافة في الحكم تتم عن طريق الإنتساب الأبوي كما في (روما) . في الواقع فأنه لا يوجد في اليونان أبدا تقليد يتعلق بالنظام الأمومي وبإستثناء الحكم الذي لم يدم طويلا للأسكندر فإن البلاد لم تتوحد أبدا . إن ملوك العصر البطولي الذين تحدث عنهم (هوميروس) كانوا فقط حكاما لمدن ، زعماء قرى ، مثل (أوليس) . كانت الخصومات بين تلك القرى ذات طابع طفولي إذ كانت الحجارة تلقى على سكان القرى المجاورة بينما هم يعبرون تلك القرى . في أفضل العهود كانت تلك المدن الإغريقية تحكم بواسطة مغامرين وتجار طامحين إستولوا على السلطة عن طريق المكيدة . الإسكندر مثلا كان أجنبيا من (مقدونيا) .
في المقابل فقد لوحظ غياب الملكات في التاريخ الإغريقي ، الروماني أو الفارسي ، أما الإمبراطورية البيزنطية فيجب أن ينظر إليها كحالة منفصلة معقدة. بالمقارنة فإنه خلال تلك الحقب التاريخية البعيدة كان للملكاتّ وجود في أفريقيا السوداء بشكل متكرر . حينما إكتسب العالم الهندو – أوروبي من القوة العسكرية ما يكفي لقهر الدول القديمة التي عملت على تحضّره ، واجهتهم مقاومة شرسة لا تعرف الإستسلام لملكة جسّد كفاحها الفخر القومي لشعب كان حتى يومها يحكم الأخرين . هذه الملكة هي (كانديس) ملكة السودان المروي التي أثارت إعجاب القدماء بتوليها قيادة قواتها في مواجهة القوات الرومانية بقيادة القيصر أغسطس . إن فقدانها لعينها في المعركة فقط يعزز من المدى الذي وصلت إليه شجاعتها ، جرأتها وإزدرائها للموت للدرجة التي إنتزعت فيه الإعجاب من متعصب وطني مثل (سترابو) الذي قال عنها (( إن لهذه الملكة شجاعة تفوق جنسها [/rtl]
salih sam
لـــواء
الـبلد : المهنة : College studentالمزاج : اللهم سلم السودان و اهل السودان التسجيل : 09/05/2011عدد المساهمات : 7924معدل النشاط : 6296التقييم : 271الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 17:44
(9) ..............
[rtl]في بداية الحضارة الغربية بدأ ملوك الفرنجة وبشكل تدريجي إكتساب عادة إعداد خلفائهم في السلطة مقدما ، مستبعدين في ذلك أي فكرة عامة عن النظام الأمومي . بالتالي فإن الحقوق السياسية كانت تنتقل من خلال الأب ، غير أن ذلك لا يعني أن البنت لا يسمح لها بتلقي تلك الحقوق . على الجانب الأخر فإن النظام الأمومي الزنجي لا يزال حيا اليوم مثلما كان في العصور القديمة ففي المناطق التي لم يتغير فيها النظام الأمومي بفعل مؤثرات خارجية (الإسلام مثلا) فإن المرأة لا تزال تتولى نقل الحقوق السياسية . إنّ ذلك مستمد من الفكرة العامة التي مفادها أن التوريث يكون فعّالا فقط عن طريق النظام الأمومي . هناك وجه نموذجي أخر للنظام الأمومي ، وجه غالبا ما أسيء فهمه ألا وهو المهر الذي يدفعه الرجل للمرأة على عكس ما هو متعارف عليه في الدول الأوربية . ما أسيء فهمه في أوروبا هو أن الأخرين إعتقدوا أنه وبهذا العرف فأنّ المرأة تباع في أفريقيا السوداء ، مثلما يقول الأفريقي في المقابل أن المرأة تشتري الرجل في أوروبا . في أفريقيا ومنذ أن حظيت المرأة بمكانة مميزة بفضل النظام الأمومي فإنها هي التي تتلقى ضمانا في شكل مهر في رباط يعرف بالزواج . ما يثبت أن ذلك لا يعني أن تشترى كعبدة هو أن ذلك المهر لا يقيدها ببيت الزوجية فإن كانت هناك منقصة على الزوج فإن الزواج ينقض خلال ساعات قليلة بسبب الضرر الذي وقع عليها وبعكس ما يقال فإن الأعمال الأقل مشقة هي التي تقوم بها النساء .
ماهو أصل النظام الأمومي ؟ إننا لا نعلم بشكل أكيد في الوقت الحاضر ، مع أن هناك رأي حالي يتمسك بالقول أن النظام الأمومي مرتبط بالزراعة . إذا كانت الزراعة قد أكتشفت بواسطة النسـاء كما يعتقد في بعض الأحيان وإن كان صحيحا أنهن أول من فكرنّ في إختيار الأعشاب المغذية نظرا لملازمتهن البيوت ، فيما كان الرجال ينخرطون في أعمال أكثر خطورة (الصيد ، الحروب ، الخ .. ) فإن هذا بجانب النظام الأمومي يفسر جانبا هاما في الحياة الأفريقية لكنه غير ملاحظ تقريبا وهو أنّ المرأة هي سيدة البيت بالمعنى الإقتصادي للكلمة فهي مسئولة عن كل أمور الطعام بحيث لا يستطيع الرجل مد يده إليه من غير موافقتها . وفقا لذلك فإنّ المرأة تمارس نوعا من السيطرة الإقتصادية على المجتمع الأفريقي ، الشيء الأكثر وضوحا كونه الأعم تطبيقا . إن فرضية أن المرأة إكتشفت الزراعة سوف تمكننا أيضا من فهم سبب عادة لا تزال قائمة وهي زرع النساء لحديقة صغيرة حول مسكنهن تزودهن بالتوابل . ربما أفترض أن الزراعة قد ظهرت في كل مكان خلال نفس الفترة ، أي في حوالي الألفية الثامنة قبل الميلاد ، غير أنه نادرا ما نجد آثارا للحياة الزراعية في أي مكان عدا الصحراء بحيث يمكننا أن ننسبها إلى تلك الحقبة . من جهته يرى (ثيودور مونود) أن الزراعة قد مارسها الجنس ذو السلالة السوداء (شبه الزنجي) . يفترض أن تكون الزراعة قد إنتشرت مبكرا من الصحراء إلى الهند على إمتداد كامل المنطقة المدارية ، بينما بدت السهول اليوروآسيوية غير الصالحة تماما للحياة الزراعية والحضرية مهدا للبداوة . إن هذا هو السبب الذي جعل للهنود الأوربيين رؤى تتعارض تماما مع تلك الرؤى التي للسود بسبب بيئاتهم الجغرافية التي شكلتهم .
لقد تميزت الحقبة الإيجية برفض النظام الأمومي الزنجي ، مع أن الهنود الأوربيين تأثروا به إلى حد ما . بما أن النظام الأمومي سمة أساسية للحضارة الزراعية الزنجية ، فإنه من السخف أن يتوقع منه أن ينظم توارثا للحكم في حكومة أقامها البيض . لذا من الصعب قبول هذه الفرضية . إن هناك الكثير من المسلمين يعدلون شجرة أنسابهم بأضافة فروع ليكونوا من سلالة النبي (محمد) وبذلك زعم أسلاف المغاربة . إن هذا الميل نجده عند أمراء الـ (سارا) في غانا القديمة عندما أصبحوا (سارا كوله) حينما تميزت الأسر الحاكمة الغانية بإمتزاجها مع الدم العربي مع دخول الإسلام . بفضل كتابات المؤرخين العرب في العصور الوسطى ، علمنا أن حكام غانا السود حكموا البربر – الطوارق في (وادوقوست) الذين كانوا يدفعون الجزية . لقد لفت إنتباه (إبن بطوطه) الذي زار السودان في العصور الوسطى النظام الأمومي الزنجي ذاكرا بأنه واجه ظاهرة مماثلة فقط لتلك في الهند عند شعوب سوداء أخرى : ((إنهم ينتسبون إلى خيلانهم وليس إلى أعمامهم فالأبناء لا يرثون من جهة أبائهم بل الأصح أبناء الأخ وأبناء الأخت ، أبناء أخت الأب . إنني لم أجد هذا العرف إلا عند كفار مالابار في الهند )) .
يجب علينا أن لا نخلط بين النظام الأمومي مع حكم الأمازونيين الأفارقة أو حكم الجورجون . إن هذه أنظمة أسطورية يزعم فيها أن النساء اللائي يسيطرن على الرجال ، يتميزن بأساليب تحط من قدر الرجال ففي التعليم يتجنبن تكليفه بمهام تعمل على تنمية شجاعته أو إحياء كرامته . كان على الرجال كذلك أن يعملوا كمرضعات محل النساء اللائي كن يدافعن عن المجتمع للدرجة التي يعملن فيها على إزالة أثدائهن لتحسين أدائهن في الرمي بالسهام . مع إننا قليلا ما نثق في هذه الاسطورة ، إلا أننا قد نكون مجبرين على إفتراض هيمنة مبكرة شرسة من الرجال على النساء ، ربما في حقبة (النظام الأبوي) التي أعقبها تحرير النساء وفترة الإنتقام للأمازونيات . إن ثورة ونصر النساء هذه على الرجال يفترض أن تكون جزئية ، حيث يزعم أن هناك أمتين للأمازون والجورجون في العصور القديمة السالفة . إن الحقيقة التي مفادها أن الأمازونيات كن فارسات مقدامات يجعلنا نميل للإعتقاد بأنهن جئن من السهول اليوروآسيوية إن كانت تلك المنطقة حقا موطنا أصليا للجياد كما زعم . يتميز النظام الأمومي بالتعاون والإزدهار المتجانس لكلا الجنسين وبتفوق أكيد للمرأة وهو تفوق عائد بشكل أساسي للظروف الإقتصادية ، يتقبله الرجل بل يدافع عنه .
* القرابة بين السودان المروي ومصر : إذا ما وضعنا في الإعتبار أنّ أثيوبيا اليوم ليست إثيوبيا القديمة والتي تعني أساسا حضارة سنار السودانية ، فإن علينا أن نعترض على المصطلح الحديث المضلل الذي يحيل إثيوبيا القديمة وبلاوعي إلى جهة الشرق أي إلى أديس أبابا . إنّ الملوك الذين أزاحوا الليبيين المغتصبين عن عرش مصر تحت حكم الأسرة الخامسة والعشرين حوالي عام 750 ق.م كانوا في الواقع سودانيين . في عام 712 إعتلى (شاباكا) عرش مصر بعد أن دحر الغاصب (بوخوريس) وتلقى ترحيبا حارا من الشعب المصري الذي رأه كمجدد للتقاليد القديمة ، ليشهد ذلك مرة أخرى على القرابة الأصيلة بين المصريين والإثيوبيين الزنوج . لقد أعتبر المصريون أثيوبيا والأجزاء الداخلية من أفريقيا على الدوام كأرض مقدسة جاء منها الأسلاف . إنّ هذه الفقرة من (شيروبيني) تشير إلى تفاعل المصريين مع قدوم الأسرة الحاكمة السوداء من أرض كوش (السودان ) :
(( على أي حال فإنه لجدير بالملاحظة أن سلطة ملك إثيوبيا بدا أنها سلطة معترف بها في مصر، أقل من أن تكون حكم عدو فارض سلطته بالقوة أو من وصاية دعا لها المبتهلون في بلد عانى طويلا وأبتلي بالفوضى عند حدوده وبضعف في الخارج , بهذا الملك وجدت مصر مجسدا لأفكارها ومعتقداتها ومجددا متحمسا لمؤسساتها وحاميا قويا لإستقلالها . لقد بقي حكم (شاباكا) في الذاكرة المصرية كواحد من أسعد العهود ، فيما أحتلت أسرته التي جرى تبنيها في أرض الفراعنة الترتيب الخامس والعشرين في الأسر القومية الحاكمة التي إعتلت العرش )) .
إن هذه العلاقة بين مصر وبلاد النوبة ، مصرايم وكوش وكلاهما أبناء حام ، تكشف عنها الكثير من الأحداث في التاريخ المصري – النوبي . بعد (شيروبيني) جاء دور (بودج) ليلاحظ التالي : (( لاحظت في – سيما – أن معبد (تي – راكا) قد خصصه هذا الملك لروح (أوسارتاسون الثالث) معتبرا إياه كأب إلهي . عبّر (بودج) عن رأيه بالقول بأن الملوك الإثيوبيين كانوا يعتبرون الفاتحين المصريين كأسلافهم . بالرغم من ذلك فإن (بودج) أخذ في الإعتبار إقتناع المصريين بأنهم قد توحّدوا بفضل الروابط الوثيقة مع شعب (بونت) التي هي إثيوبيا اليوم . لقد لاحظ أخيرا أنّ سكان بونت في تلك الحقبة البعيدة أي في عصر الملكة (حتشبسوت) قد وصفوا بأن لهم لحية مجدولة بشكل غريب ، تزين بها وجوه الآلهة في كل النقوش المصرية )) .
إن هذا الإقتباس بالكاد يحتاج إلى تعليق فالعنصر الأخير الذي ذكر أي اللحية المجدولة لا تزال موجودة في أفريقيا السوداء . لم يكن المصريون مقتنعون فقط بالروابط الوثيقة بين الشعبين ، بل كذلك بالقرابة البيولوجية الأصيلة ، ذلك كونهم ينحدرون من نفس السلف الذي للسود الذين سكنوا لاحقا أرض بونت . إنّ ذلك هو الجد الأعلى المشترك للمصريين والنوبيين الذين عبدوا الإله (آمون) والذي كما رأينا هو إله كل أفريقيا السوداء اليوم . حتى نهاية الإمبراطورية المصرية كان ملوك بلاد النوبة (السودان) يحملون نفس لقب الفراعنة المصريين أي (صقر بلاد النوبة ) . لقد جرى تصوير آمون وأوزيريس باللون الأسود الفاحم ، أما إيزيس فهي الإلهة السوداء . كان المواطن القومي أو الأسود فقط هو الذي يحظى بالخدمة في عبادة الإله (مين) . إنّ الكاهنة التي لدى الإله آمون في ذلك المكان المقدس لم تكن سوى سودانية مروية . إن هذه الحقائق أساسية وغير قابلة للعبث بها . لقد سعى خيال الباحثين بلا جدوى لإيحاد تفسير يتوافق مع فكرة الجنس المصري الأبيض .
(( لقد كان للإله كوش محراب في مفيس ، طيبه ، مروي تحت الإسم خونس ، إله السموات بالنسبة للإثيوبيين ، هرقل بالنسبة للمصريين )) – بيدرال ص 29 . لدى (الولوف) فإن (خونس) يعني (قوس قزح) . كذلك هناك أرض في النيل الأعلى تعرف بإسم خونس )) . وفقا لذلك فإن بلاد النوبة تبدو قريبة الشبه بمصر وأفريقيا السوداء ، إذ تبدو أنها بمثابة نقطة الإنطلاق بالنسبة للحضارتين . لذا فإننا لا نندهش اليوم أن نجد سمات حضارية مشتركة مع بلاد النوبة التي إستمرت مملكتها حتى الإحتلال البريطاني وبقية أفريقيا السوداء . مباشرة وبعد إنتهاء التاريخ المصري – النوبي القديم ، صعد نجم إمبراطورية غانا كالشهب فيما بين منبعي نهري النيجر والسنغال في حوالي القرن الثالث بعد الميلاد . بالنظر إلى التاريخ الأفريقي من هذا المنظور فإن هذا التاريخ تواصل من دون إنقطاع . لقد خلفت الأسر المصرية الحاكمة الأسر النوبية الحاكمة الأولى في الحكم ، حتى إحتلال مصر من قبل الهنود الأوربيين إبتداء من القرن الخامس قبل الميلاد . لقد ظلت بلاد النوبة المصدر الوحيد للثقافة والحضارة حتى حوالي القرن السادس بعد الميلاد ، ثم حملت غانا الشعلة منذ القرن السادس حتى عام 1240 م حينما دمرت عاصمتها على يد (سوندياتا كيتا) . لقد كان ذلك نذيرا بتدشين إمبراطورية ماندينقو (عاصمة : مالي ) التي كتب عنها (ديلافوسي) :
(( لقد كانت هذه القرية الصغيرة في النيجر الأعلى لسنوات عديدة العاصمة الرئيسية لأكبر إمبراطورية عرفت في أفريقيا السـوداء وواحدة من أكثر الإمبراطوريات أهمية في العالم )) .
ثم جاءت من بعد ذلك إمبراطورية قاو ، إمبراطورية ياتينقا ( أو موسى والتي لا تزال قائمة ) ، ممالك جولوف وكايور في السنغال التي دمرها (فيدهرب) في ظل حكم نابوليون الثالث . في سردنا لهذا التسلسل الزمني فإننا نود أن نظهر أنه ليس هناك إنقطاع في التاريخ الأفريقي . إن هذا هو المنظور الذي يجب أن ينظر به إلى ماضي أفريقيا وطالما جرى تفادي ذلك الماضي فإن التفسيرات الأكثر دراسة سوف يكون مآلها الفشل ، حيث لا توجد تفسيرات مثمرة خارج الواقع . إن علم الآثار المصرية سوف يرتكز فقط على أرضية صلبة حينما يعترف رسميا بأساسه الزنجي – الأفريقي . بناء على قوة الحقائق أعلاه وتلك التي يحب أن تتبع ، فإنه يمكننا أن نؤكد وبإطمئنان بأنه طالما تجنب علم الآثار المصرية الأساس الزنجي للحضارة وطالما ظل يغازل مضمونه كما لو أنه يريد إثبات نزاهته فسيجد نفسه أمام طريق مسدود . ما هو أكثر طبيعية من أن نعثر على البانثيون المصري – النوبي سليما بأكمله تقريبا في أفريقيا ؟ ينقل لنا (بيدرال) مقتبسا من (موريه) رواية قبطية عن ملكين أحدهما غير معلوم ، أما الثاني فهو الملك (شانقو) ، (ياكوتا) ، أو (خفيوسو) – حسب لغة الحوار . لقد عبد هذا الحاكم على إمتداد ساحل العبيد (غينيا) تحت هذه الأسماء المختلفة كإله للرعد والدمار والذي هو وفقا للقصص التي رواها السود ملك كوش ولقبه أوباتو – كوسو ، شانقو . كان يحب الحرب والصيد بشغف ولقد فادته فتوحاته حتى داهومي . أما الملكان بيري (إله الظلام) و أيدو – خويتو (إله قوس قزح) فقد كانا من عبيده .
(( مثلما ذكر ذلك موريه فإن أوبا – كوسو قد ولد في (إيفي) وهو موقع يجهله المؤلف تماما . مزينا باللقب (أول مولود للإله الأعظم) فإنه كان نتاج للعلاقة الآثمة مع المحارم لـ (أورجان) إله الجنوب و (يماديا) والدة (أورجان) التي هي نفسها شقيقة (أجانجدو) إله الفضاء . أما إخوة شانقو – أوبا – كوسو فهم (دادا) إله الطبيعة ، (أوقون) إله الصيادين والحدادين . إن له ثلاثة زوجات أويا ، أوسون ، أوبا . إنه من الواضح تماما أن أوسون تشبه أسون زوجة تويوم – ست – تيفون التي نزوجت لاحقا حورس إبن مصرايم – أوزيريس ، أما (دادا) فهو يشبه (ديدان) إبن كوش في رواية ورياما في رواية أخرى . أخيرا فإن الإثيوبيين يزعمون أن كوش تزوج ثلاثة نساء هن أخواته . إن شهادة (موريه) تلخص جزء أساسيا من التقاليد المشتركة الواقعة على خليج بنين (توجو ، داهومي ، نيجريا) إلى إيوي ، قوين ، فون ، يوروبا وكانت الأخيرة تدعى مدينتهم المقدسة إيفي )) بيدرال ص 30 – 31 .[/rtl]
salih sam
لـــواء
الـبلد : المهنة : College studentالمزاج : اللهم سلم السودان و اهل السودان التسجيل : 09/05/2011عدد المساهمات : 7924معدل النشاط : 6296التقييم : 271الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 17:45
[rtl](10) ............[/rtl]
[rtl]إن (موريه) قد أخذ هذه الشهادة كما كشف (بيدرال) من كتيب مترجم بالعربية نشر في باريس في عام 1666 . الرواية التي كشف عنها رواها الأقباط أنفسهم وهي الأكثر أهمية كونها تختلط بتلك الروايات التي توجد اليوم في غرب أفريقيا بين سكان ، داهومي ، توجو ، النيجر ، الخ .. إن (شانقو) و (أوروقان) هما آلهة نيجيريا وكامل خليج بنين عموما . (إيفي) هي المدينة التي أخذ (موريه) إسمها من النصوص القبطية دون أن يعلم أنها مدينة نيجيرية مقدسة ، مما يظهر العلاقة الوثيقة بين التاريخ المصري وتاريخ أفريقيا السوداء . يوحي إسم (أوروقان) إله الجنوب بأنه مشتق من كلمة أورقان (أي الإعصار) وهي كلمة من غربي الهند ، ربما لها أصل أفريقي أدخلها الفودو إلى جزر الأنتيل ، أما (ياكوتا) فهو إله الدمار . لاحظ أن الملك الموسي يطلق عليه حاليا إسم (نابا) وهو كذلك إسم الملك الذي كان يحكم جزء من بلاد النوبة (بيدرال ص 36 ) .
في عهد الملك (بسماتيك) وحينما أسيئت معاملة الجيش المصري ، إنتقل نحو 200.000 منهم بقيادة ضباطهم إلى السودان النوبي واضعين أنفسهم تحت إمرة الملك النوبي . لقد ذكر (هيرودتس) أن الملك النوبي إستوعب وأنزل كامل الجيش في أراض ليزرعها فيما ذابت في النهاية عناصره مع الشعب النوبي . لقد حدث ذلك في وقت كان عمر الحضارة النوبية فيه آلاف السنين . بناء على ذلك فإننا نندهش حينما نرى المؤرخين وهم يحاولون إستخدام هذه الحقيقة لتفسير الحضارة النوبية . في المقابل فإن كل الباحثين الأوائل الذين درسوا تاريخ بلاد النوبة ، حتى أؤلئك الذين ندين لهم بإكتشاف علم الآثار النوبي (مثل كيلايود) توصلوا إلى أسبقية النوبة في الحضارة .
لقد أشارت دراساتهم إلى أنّ الحضارة المصرية إنبثقت من الحضارة النوبية أي من السودان . مثلما لاحظ (بيدرال) فإن (كيلايود) إرتكز في حجته على حقيقة أن كل أدوات العبادة في مصر (وبالتالي جوهر التقاليد المقدسة) نوبية المنشأ . إفترض (كيلايود) عندئذ أن جذور الحضارة المصرية هي في بلاد النوبة (السودان) وأنها إنبثقت تدريجيا من وادي النيل . في هذا فإن (كيلايود) يعيد إكتشاف أو يؤكد لحد ما الرأي الإجماعي للقدماء ، الفلاسفة والكتّاب الذين قضوا وبشكل واضح بأسبقية بلاد النوبة في الحضارة . من جهته يذكر (ديودورس الصقلي) بأنه في كل عام كان يجري نقل تمثال (آمون) ملك طيبه في إتجاه بلاد النوبة لعدة أيام ثم يعاد ، كما لو أنّ ذلك يشير إلى أن الإله قد عاد من بلاد النوبة ووفقا لـ (ديودورس) فإن الحضارة المصرية إنبثقت من بلاد النوبة التي مركزها (مروي) . في الواقع وبتتبع البيانات التي قدمها كل من (ديودورس) و (هيرودتس) عن موقع تلك العاصمة السودانية ، فإن (كيلايود) إكتشف في حوالي عام 1820 أطلالا في مروي : (80) هرما ، العديد من المعابد المخصصة لـ (آمون) ، (رع) وهكذا . مقتبسا من الكهنة المصريين فإن (هيرودتس) ذكر أن من بين (300) فرعون مصري من (مينا) إلى الأسرة الحاكمة السابعة عشرة كان هناك (18) فرعونا من أصل سوداني . يعترف المصريون أنفسهم وبدون غموض أنّ أسلافهم جاءوا من بلاد النوبة ومن قلب أفريقيا ، أرض الأمام ( وهي تعني السلف بلغة الولوف) وقد أطلق المصريون على كامل إقليم كوش جنوب مصر (أرض الآلهة) . هناك وقائع أخرى ذكرت في هرم (أوناس) مثل الأمطار الجارفة والعاصفة والتي تجعلنا نفكر في المناطق الإستوائية أي قلب أفريقيا ، مثلما لاحظ ذلك (أميلينو) .
ما هو ذا مغزى هو أن الحفريات في منطقة أثيوبيا القديمة كشفت عن وثائق بجدارة حمل بلاد النوبة فقط لإسم إثيوبيا وليس أثيوبيا الحالية . في الواقع فإنه في بلاد النوبة عثرنا على إهرامات مشابهة لتلك التي في مصر ، معابد تحت الأرض ، الكتابة المروية التي لم تفك شفرتها بعد ، مع أنها قريبة الصلة بالكتابة المصرية . مع أنّ هذه النقطة لم يشدد عليها ومع أنها غريبة بما يكفي ، فإن الكتابة المروية أكثر تطورا من الكتابة المصرية . بينما نجد أن الكتابة المصرية حتى في مراحلها الهيراطيقية والديموطيقية ، لم تستبعد تماما جملها الهيروغلوفية ، فإننا نجد أن للكتابة النوبية حروفها الأبجدية . بالطبع فإن المرء يتوقع وبيقين أن هناك محاولات ستجرى لتجديد شباب الحضارة النوبية وتفسيرها من خلال مصر . إن ذلك ما يعتقد عالم الآثار الأمريكي جورج أندرو ريزنر( 1867 – 1942) أنه أنجزه في دراسة لم تتعدى أكثر من الحقبة الآشورية أو الألفية الأولى للتاريخ النوبي . لقد زعم (ريزنر) أن بلاد النوبة قد حكمت سابقا بواسطة الأسر الحاكمة الليبية وأن الأسر الحاكمة السوداء كانت إمتدادا لها . مرة أخرى فإن البيض الأسطوريون صنعوا حضارة ثم إنسحبوا بشكل إعجازي ، تاركين المكان للسـود . لقد أصبحت كل الممالك الزنجية في أفريقيا السوداء – من مصر ، بلاد النوبة ، غانا ، سوناغي ، إلى مملكة بنين مرورا برواندا – أوراندي – ضحية لهذه المحاولات المثبطة عموما والتي أصبحت في النهاية مملة بحيث لا تثير الإهتمام . إن (ريزنر) ما كان له أن يفشل في أن يعرف أنّ الحضارة النوبية يعود تاريخها إلى ما قبل ظهور الليبي اليافثي الأبيض في أفريقيا . بناء على ذلك فإن المشكلة ليست في البحث عن ليبيين في التاريخ النوبي الحديث ، لكن في العثور على بعض منهم عند بداية تلك الحضارة أي منذ حوالي 5000 عام قبل الميلاد . إن هذه المهمة لم يكن (ريزنر) محتاطا للقيام بها .
مهد الحضارات في قلب البلاد الزنجية
ليس هناك ما يقل مفارقة من تلك الحقيقة التي مفادها أنّ الهنود الأوربيون لم يؤسسوا أبدا حضارة في بلادهم أي في السهول اليوروآسيوية . إن الحضارات التي نسبت إليهم تقع وبشكل حتمي في قلب البلاد الزنجية في الجزء الجنوبي من النصف الشمالي للكرة الأرضية : مصر ، الجزيرة العربية ، فينيقيا ، بلاد ما بين النهرين ، عيلام ، الهند . في كل تلك البلاد كانت هناك أصلا حضارات زنجية حينما قدم الهنود الأوربيون كبدو غير متحضرين خلال الألفية الثانية . الطريقة النموذجية التي أتبعت هي إثبات أن هؤلاء الشعوب المتوحشة جلبوا معهم كل عناصر الحضارة حيثما ذهبوا . السؤال الذي يتبادر للذهن عندئذ : لماذا تظهرالكثير من القدرات الإبداعية فقط عندما يكون هناك إتصال بالسود ؟ وليس في الموطن الأصلي للسهوب اليورو آسيوية ؟ لماذا لم تصنع تلك الشعوب حضارة في موطنها قبل الهجرة ؟ إذا ما إختفى العالم الحديث فإن المرء يستطيع أن يكتشف بسهولة وبفضل آثارالحضارة في أوروبا ، أن هذا هو المركز الذي إنتشرت منه الحضارة الحديثة إلى العالم . إذا ما أشرنا إلى أكثر العصور السحيقة قدما ، فإن الدليل سوف يجبرنا على أن نبدأ من الدول السـوداء لتفسير كل الظواهر الحضارية.
إنه من الخطأ القول بأن الحضارة قد نشأت من هجين عرقي ، ذلك لأن هناك دليل بأنها كانت قائمة في البلاد السوداء قبل أي إتصال تاريخي مع الهنود الأوربيين . لقد صنعت الشعوب الزنجية المتجانسة عرقيا كل عناصر الحضارة بالتكيف مع الظروف الجغرافية المواتية في مواطنهم الأولى . منذ ذلك الوقت فصاعدا فإن بلادهم أصبحت أشبه بالمغناطيس الذي جذب شعوب البلاد المجاورة المتخلفة والتي سعت للتحرك لتحسين وجودها . بالتالي فإن التهجين الذي نجم عن هذا الإتصال ، كان نتيجة للحضارة التي صنعها السود مسبقا أو الأصح كانوا سببا فيها . لذات السبب فإن أوروبا عموما – وباريس ولندن على وجه الخصوص – هي مراكز إستقطاب حيث تتقابل فيها كل أعراق العالم وتختلط كل يوم ، غير أنه سيكون من الخطأ تفسير الحضارة الأوربية بعد ألفي عام من الآن بأن القارة كانت يومها مشبعة بمستعمرات ساهمت كل واحدة منها بحصتها من العبقرية . بالعكس فإننا يمكن أن نرى أن كل العناصر الأجنبية التي تجاوزتها الحضارة ، تحتاج إلى مدة معينة من الزمن للحاق بها وحتى الوقت الطويل لا يسمح لها بأن تقدم مساهمة مقدرة في التقدم الفني .
إنه الأمر ذاته في العصور السالفة : لقد كانت كل عناصر الحضارة المصرية موجودة منذ البداية ثم تحللت في الغالب عند إتصالها بالأجنبي . إننا على علم تام بالغزوات البيضاء لمصر خلال العصور التاريخية : الهكسوس ، الليبيين ، الآشوريين ، الفرس . إن أي أحد من هؤلاء الغزاة لم يجلب معه أي تطور جديد في الرياضيات ، الفلك ، الفيزياء ، الكيمياء ، الطب ، الفلسفة ، الفنون ، أو التنظيم السياسي . إن ما جاء سابقا يتيح لنا رفض التفسيرات اللاحقة التي تستنتج من أن الوضع في العالم الحديث يقضي بأن المنطقة المعتدلة هي المنطقة الملائمة دائما لإزدهار الجضارات ، إذ أن الوثائق التاريخية تثبت العكس : ذلك أنه في الوقت الذي تحدد فيه سلفا مناخ الأرض ، كانت الحضارات الأولى موجودة خارج تلك المنطقة . [/rtl]
salih sam
لـــواء
الـبلد : المهنة : College studentالمزاج : اللهم سلم السودان و اهل السودان التسجيل : 09/05/2011عدد المساهمات : 7924معدل النشاط : 6296التقييم : 271الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 17:48
[rtl](11) .............[/rtl]
[rtl]الفصل الثامن الحجج التي تعارض زنجية منشأ الحضارة -------------
إذا صنع السود الحضارة المصرية فكيف يمكننا تفسير تخلفهم اليوم ؟ إن ذلك السؤال قد لا يكون له معنى إذا لم نسأل كذلك عن سبب بقاء الفلاحين والأقباط - الذين يفترض أن يكونوا الأسلاف المباشرين للمصريين اليوم - في ذات المرحلة المتأخرة مثل السود ، إن لم يكونوا أكثر . بالرغم من ذلك فإن هذا لا يعفينا من تفسير كيفية إنتقال حضارة مصر الفنية والعلمية والدينية إلى باقي أفريقيا متكيفة مع ظروف جديدة . لقد تطورت الدول في وقت مبكر جدا حول الوادي الأم ، مع أننا لا نستطيع تحديد التاريخ الصحيح لظهور تلك الدول . من خلال الهجرات المتتالية بمرور الزمن ، إخترق السود قلب القارة بشكل بطيء وطردوا الأقزام القاطنين هناك ، ثم قاموا بتأسيس دول إحتفظت بعلاقات مع الوادي الأم حتى جرى إخضاعه بواسطة الأجنبي . من الجنوب إلى الشمال كانت هناك بلاد النوبة ومصر ، من الشمال إلى الجنوب كانت بلاد النوبة وزيمبابوي ، من الشرق إلى الغرب كانت هناك بلاد النوبة ، غانا ، من الشرق إلى الجنوب الغربي كانت بلاد النوبة وتشاد ، الكونغو ، من الغرب إلى الشرق بلاد النوبة وإثيوبيا .
في إثيوبيا وبلاد النوبة وهو إقليم زنجي بالكامل لا نزال نجد غزارة في الآثار الحجرية مثل المسلات ، المعابد ، الأهرامات . لقد عثر على المعابد والأهرامات بشكل حصري في السودان المروي . لقد أكدنا سابقا على الدور الغالب لذلك البلد في نشر الحضارة إلى أفريقيا السوداء ولا نريد أن نعود إلى هذا الموضوع . بالنسبة للعقلية المعاصرة فإن تعبير (إثيوبيا) يستدعي (أديس أبابا). هنا مرة أخرى علينا أن نشدد على الحقيقة التي مفادها أنه لم يعثر في هذه المنطقة على شيء سوى مسلة واحدة وقاعدتي تمثال . إنّ حضارة (أكسوم) العاصمة القديمة لإثيوبيا هي في الواقع كلمة أكثر من واقع تدعمه الآثار التاريخية . إنه في السودان المروي وسنار يتواجد (84) معبدا وهرما . لذا فقد جرى التلاعب بأسماء الأماكن لتقديم دليل على آسيوية المنشأ للحضارة الزنجية المصرية بشكل أكثر أو أقل وذلك عن طريق باب المندب .
في الواقع فإن علينا أن نعترض على مصطلحات كاملة مثل حاميين ، شرقي ، إثيوبي وحتى أفريقي في الكتابة التاريخية المعاصرة ، كون أن حسن التعبير يمكّن المرء من أن يتحدث عن الحضارة الزنجية السودانية المصرية من دون إستخدام المصطلح (زنجي) أو (أسود) . في زيمبابوي التي يمكن إعتبارها إمتداد لأرض الإثيوبيين (الماكروبيين) مثلما ذكر هيرودتس ، عثر على أطلال لآثار ومدن بنيت من الحجارة مع صقر يمثلها ومثلما كتب دي. بي. بيدرال (ص 116) فإن هذه الآثار (إمتدت على مساحة نصف قطرها يتراوح ما بين 100 – 200 ميل حول فيكتوريا) . يمعنى أخر فإن هذه المساحة تعادل في قطرها فرنسا تقريبا . في إقليم (غانا) تحدث بيدرال كذلك (ص 61) عن ( مدينة كوكيا التي يقول عنها بعض المؤرخون إنها كانت موجودة في عصر الفراعنة ) وقد أورد (لويس ديسبلاني) والذي قام بحفريات في تلك المنطقة آثارا عنها . نفس المؤلف ذكر أيضا موقع (كومبي) والذي قام بحفرياته الفرنسي (بونيه دي ميزيير) وأكتشف مدافن ذات أبعاد واسعة : توابيت صخرية ، أماكن تعدين ، أطلال أبراج ومبان مختلفة .
(( نستطيع أن نميز بوضوح حدود الشارع الذي كانت تحده المنازل بجدران يبلغ إرتفاعها أكثر من متر أو متر ونصف ، فيما تهاوت الأسقف . بعيد عنه هناك شريط من أرض منبسطة تفضي إلى ميدان عام مع جدران يبدو أنها كانت داعمة لأدوارا علوية . أحيانا تبدو المباني مصانة بشكل جيد بحيث تحتاج إلى قليل من الجهد لكي تصبح قابلة للسكن . إن حدود المباني لا تزال مرئية بسبب وجود الحجر المنحوت ، أما ما حولها فهي بقايا بسور منخفض وخارج المدافن هناك شظايا من الفخار في كل مكان ، حطام من النحاس الأحمر وعلى مسافة من هناك آثار لأماكن تعدين في سهل صخري أحمر . أما المباني الأخرى فهي معقدة . يتألف أحد هذه المباني من خمسة غرف بعمق أربعة متر مع صالات للتواصل مع مثالية البناء . بالنسبة للجدران فهي بسمك ثلاثون سنتمينر)) ييدرال ص 62 .
في منطقة بحيرة ديبو (في مالي ) عثر كذلك على إهرامات وهذه إعتبرت إستحكامات كما كان يتوقع . إنّ هذه هي الطريقة المعتادة في محاولات الإنتقاص من القيم الأفريقية . بالمقارنة فإن هناك نهج متناقض يتمثل في وصف الركام الطيني – الذي هو إستحكام حقيقي – في بلاد ما بين النهرين بأنه أكثر المعابد التي يتصورها العقل البشري كمالا . إن ذلك يمضي من دون القول بإن إعادة بنائها لا يعدو سوى أن يكون تفكيرا رغائبيا . على الجانب الأخر هنا مقاله (بيدرال) عن إهرامات السـودان : (( هناك كتل هائلة من الطين والحجر في شكل إهرامات مبتورة مع قمة من الآجر والطوب الأحمر وكل هذه الإهرامات تعود إلى ذات السلسة الزمنية وقد بنيت لنفس الغرض . ترتفع الإهرامات إلى علو يتراوح بين 15 – 18 متر على قاعدة مربعة بمساحة 200 متر مربع . لقد نقّب (ديسبلاني) إحدى هذه الإستحكامات في موقع الوليجي عند ملتقى (عيسى بير) و (بارا عيسى) . في الوسط إكتشف غرفة جنائزية تتجه من الشرق إلى الغرب بطول (6) متر وعرض 2.5 متر . في الغرفة وعلى سرير رملي حول جرة كبيرة ، وجد (ديسبلاني) قطع فخارية عديدة ، هيكلين عظميين ، جواهر ، أسلحة ، سكاكين ، نصال سهام ، رؤوس رماح ، خرز ، لآلي ، أواني خزفية ، تماثيل صغيرة تمثل الحيوانات وأخيرا مثاقب وإبر عظمية . صنّعت اللآلي من عجينة زرقاء زجاجية مغطاة إما بطوق لولبي مبيّض اللون أو بطبقة خارجية مطلية ، تشبه في ذلك الزجاج المصري في عصر الإمبراطورية الوسطى (تل العمارنة) . تشير الأنية الفخارية إلى أنّ صناعة السيراميك كانت متقدمة كثيرا على تلك التي للسكان المعاصرين في تلك المنطقة . كذلك فإن العمل المعدني كان ممتازا ، كما يتضح ذلك من جواهر المعادن النفيسة وأحيانا المزينة )) - نفس المصدر ص 59 – 60
لقد تولدت الحضارة في وادي النيل من تكيف الإنسان مع تلك البيئة المميزة . مثلما أكد القدماء والمصريون أنفسهم فإن الحضارة نشأت في بلاد النوبة . لقد تأكد ذلك بفضل معرفتنا من أن العناصر الأساسية للحضارة المصرية لم تكن موجودة في مصر السفلى ، آسيا ، أو أوروبا ولكن في بلاد النوبة وقلب أفريقيا وهي كذلك حيث جرى تصوير الحيوانات والنباتات في الكتابة الهيروغلوفية . لقد إعتاد المصريون على قياس إرتفاع مياه الفيضان يـ (مقياس النيل) ومنه إستنتجوا الناتج السنوي للمحاصيل من خلال العمليات الحسابية . أما بالنسبة للتقويم والفلك فقد تولدا من الحياة الزراعية المستقرة . إن التكيف مع المحيط الطبيعي أفضى إلى ظهور إجراءات صحية محددة مثل التحنيط (لتفادي وبائيات الطاعون الآتي من الدلتا) ، الصيام ، الحمية الغذائية ، الخ .. والذي أدى تدريجيا إلى ظهور الطب إلى حيز الوجود . إنّ تطور الحياة الإجتماعية والتبادلات إقتضت إبتكار وإستخدام الكتابة . لقد أدت الحياة المستقرة إلى تأسيس الملكية الخاصة وكامل القوانين الإخلاقية (الذي تلخصه الأسئلة المطروحة على الميت في محكمة أوزيريس ). لقد كان هذا القانون هو المقابل لعادات البدو اليورو – آسيويين الهمجيين والمولعون بالحرب .
نتيجة لتزايد عدد سكان الوادي بشكل مفرط وبسبب التقلبات الإجتماعية ، فإن زنوج النيل توغلوا إلى الأجزاء الداخلية من القارة ، حيث واجهوا ظروف طبيعية وجغرافية جديدة ، بحيث لم تعد الممارسات المعروفة ، الآلآت ، التقنيات ، العلوم التي كانت في السابق لا غنى عنها على ضفاف النيل ، مرغوبة بشكل حيوي على ساحل الأطلسي وعلى ضفاف نهري الكونغو والزامبيزي . لذا يصبح مفهوما أن تختفي عوامل معينة من الثقافة الزنجية في وادي النيل في الأجزاء الداخلية من القارة ، بينما بقيت عوامل أخرى - ليس أقلها العوامل الأساسية - حتى يومنا هذا . إن غياب ورق البردي في بعض المناطق ساهم في ندرة الكتابة في قلب القارة ، لكن وبالرغم من الإفادات الجادة التي تصب في عكس هذا الإتجاه ، إلا أن الكتابة لم تغب أبدا بشكل كلي عن القارة الأفريقية . في (ديوربيل) البلدة الرئيسية لـ (باول) في السـنغال وفي حي (ندونكا) بالقرب من السكة حديد ، غير بعيد من طريق دارو – موستي ، هناك شجرة أستوائية مغطاة بالكتابة الهيروغلوفية من جذعها حتى فروعها. أتذكر أن تلك الكتابة كانت مؤلفة من علامات لأيدي وحوافر حيوانات – لم تعد كتلك التي للجمال في مصر – علامات لأقدام وأشياء أخرى . لقد كان أمرا مفيدا نقل تلك البصمات ودراستها ، غير أنني في ذلك الوقت لم أكن كبيرا بما يكفي أو متدربا بما فيه الكفاية للإهتمام بذلك . ربما كان يمكن للمرء أن يأخذ فكرة عن تلك الفترة - قديما أو حديثا – والتي خلالها نقشت تلك الرموزعلى لحاء الشجرة وذلك بتحليل سماكة لحاء الشجرة ، طبيعة تلك الرموز ، الأشياء التي جرى تمثيلها وتنحية تلك الرموز على إمتداد جذع الشجرة والأفرع بينما هي تنمو . يجب إعتبار هذه الأشجار مقدسة بحيث نادرا ما ينزع المرء لحاؤها لصنع الحبال وأضيف بأنها لم تكن نادرة في تلك البلاد .
بإختصار فإنه ومنذ أن أصبح باطن الأرض في أفريقيا السوداء سليما بشكل عملي ، فإننا كنّا نتوقع أن تخرج لنا الحفريات وثائق مكتوبة لا ترتقي إليها الشبهات ، على الرغم من المناخ والأمطار الغزيرة والتي هي أجواء غير مواتية لحفظ مثل هذه الوثائق المكتوبة . يحب الإشارة إلى أن هناك كتابة هيروغلوفية موثوق منها موجودة في الكاميرون . سوف يكون من المثير للإهتمام معرفة إن كانت قديمة كما يحتج بها . إنها تماما مثل ذات النوع الذي ينتمي للكتابة الهيروغلوفية المصرية . أخيرا وفي سيراليون هناك نوع من الكتابة مختلف عن كتابة البامون (الكاميرون) وهي كتابة الـ (فاي) وهي ذات مقاطع لفظية . وفقا للدكتور (جيفرس) فأن كتابة الـ (باسا) ذات أحرف متصلة ، أما كتابة الـ (نيسبيدي) فهي ذات أبجدية . بالتالي يمكننا القول بأن القارة السوداء لم تفقد حضارتها حتى القرن الخامس عشر . من جهته يورد (فوربينوس) التالي :
(( لم يقصرالبحارة الأوربيين الأوائل في نهاية العصور الوسطى في تدوين بعض الملاحظات اللافتة ، فحينما وصلوا خليج غينيا ورسوا في (فايدا) ، إندهش القباطنة بأن يجدوا شوارع جيدة التنظيم يحفها صفين من الأشجار لعدة فراسخ . إجتازوا لأيام الريف الذي كانت تغطيه حقول مهيبة ويسكنه رجال يرتدون ملابس مزخرفة وملونة نسجوها بأنفسهم . بعيدا إلى الجنوب حيث مملكة الكونغو وجدوا جموعا كبيرة تكتسي بالحرير والمخمل ، بجانب دولا كبيرة ذات تنظيم دقيق ، حكام أقوياء ، صناعات مزدهرة . كانوا متحضرين حتى النخاع . لقد كان لتلك الأحوال ما يماثلها تماما في بلاد الساحل الشرقي كموزمبيق مثلا . إن شهادات البحارة من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر تقدم دليلا جازما على أن أفريقيا السوداء التي تمتد حتى جنوب المنطقة الصحراوية ، كانت لا تزال في تمام نضارتها وكامل روعتها من التجانس وذات حضارة جيدة التنظيم . لقد دمرالغزاة الأوربيين ذلك الإزدهار أثناء زحفهم . للأرض الجديدة إحتاجت أمريكا إلى العبيد الذي وفرتهم لها أفريقيا : بالمئات ، بالألأف وحمولات السفن المعبأة بالكامل بالعبيد ! بالرغم من ذلك فإن تجارة العبيد السود لم تكن أبدا تجارة مأمونة فقد إقتضت التبرير ، لذا فقد جعلوا من الزنجي نصف الحيوان سلعة تباع وتشترى . لذا فقد إبتدعت فكرة الفيتيشية أي الوثنية كرمز للديانة الأفريقية التي أبتدعت في أوروبا . بالنسبة لي لم أشاهد أبدا في أي مكان في أفريقيا أناس يعبدون الأصنام . إن فكرة (الزنجي الهمجي) هو إبتداع أوروبي إزدهر وهيمن على أوروبا حتى بداية هذا القرن )) .
تتفق نصوص الرحالة البرتغاليين والتي أوردها (فوربينوس) مع نصوص المؤلفين العرب في القرن الرابع عشر والخامس عشر . إنّ تنظبم الدول الزنجية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر التي أشار إليها (فوربينوس) والأبهة الملكية التي بدت هناك ، جرى وصفها من قبل مؤلف عربي زار إمبراطورية مالي في ذلك الوقت . هذه فقرة يورد فيها (إبن بطوطه) جلسات عامة عقدها (سليمان منسا) ملك (ماندينقو) . لقد زار المؤلف السودان في الفترة مابين 1352 – 1353 أثناء فة حرب المائة عام في أوروبا :
(( في أيام معينة يعقد السلطان جلسات عامة في ساحة القصر حيث توجد منصة تحت شجرة بثلاثة عتبات ويسمونها (بيمبي) وهي مفروشة بالحرير وعليها وسائد . فوق المنصة تنتصب مظلة وهي نوع من السرداق المصنوع من الحرير والذي يحيط به طائر ذهبي بحجم الصقر . يخرج السلطان من باب في ركن القصر ، حاملا معه قوسا في يده وجرابا للسهام في ظهره ، على رأسه يرتدي قلنسوة ذهبية مشدودة برباط ذهبي بحيث تبدو أطراف القلنسوة في شكل سكاكين . أما ملابسه المعتادة فهي رداء مخملي أحمر مصنوع من نسيج أوروبي يسمى (مطنفس) . يسبق قدوم السلطان موسيقيين الذين يحملون جيتارات ذهبية وفضية ذات وترين وخلفة (300) من العبيد المسلحين . يسير السلطان بشكل مترو ، متكلفا حركة بطيئة جدا وأحيانا يتوقف من وقت لأخر . عند وصول (البيمبي) يتوقف وينظر حول الجمع ثم يصعد بطريقة وقورة مثل صعود الخطيب منبر المسجد . بينما يتخذ مقعده تبدأ الطبول ، الأبواق ، آلات النفخ في العزف . عندها يهرع ثلاثة من العبيد إلى الخارج لإستدعاء نائب السلطان والقادة العسكريين الذين يدخلون ويجلسون ، ثم يجلب جوادين بسرجين مع معزتين يجري إمساكهما درء للعين الشريرة . يقف دوغا على الباب فيما يظل الناس في الشوارع تحت الإشجار . إن الزنوج هم أكثرالناس خضوعا لملكهم والأكثر تذللا في سلوكهم أمامه . إنهم يقسمون بإسمه )) .
يخبرنا (إبن بطوطه) بأن (كانكان موسى) سلف السلطان (موسى) أعطى أبا إسحاق الساحلي الذي بنى له جامعا في قاو حوالي (180) كلجم من الذهب. إن ذلك يعطينا فكرة عن ثراء تلك البلاد في الحقبة التي سبقت الإستعمار. هناك فقرة أخرى لإبن بطوطه تضع حدا للأسطورة التي مفادها أن الفوضى قد هيمنت على القارة السوداء قبل الإستعمار الأوروبي الذي جلب معه السلام ، الحرية ، الأمن ، الخ .. إن من بين ما أستحسنه إبن بطوطه من أفعال هؤلاء القوم ما أورده في التالي : (( 1- يجد المرء هنا أقل أفعال للظلم حيث أنّ السود شعوبا تمقت جميعها الظلم . إنّ السلطان لا يعفو أحدا مذنب بذلك الجرم . (2) يتمتع المرء بالأمان في جميع أنحاء البلاد. لم يكن هناك سبب يجعل التجار يخافون من قطاع الطرق واللصوص . (3) لا يصادر السود بضائع البيض (أي مواطني الشمال الأفريقي) الذين يموتون في بلاد السود حتى وإن كانت كنوزا ، بل يودعون بضاعته عند رجل من البيض ذو ثقة جتى يحضر أؤلئك الذين لهم حق في البضاعة بأنفسهم ويأخذونها )) .
في تلك الحقبة كيف كان السود يتصرفون في وجود البيض أو الأعراق التي تعتبر نفسها بيضاء ؟ لقد أجاب إبن بطوطه على هذا السؤال في النص الذي وصف فيه إستقبال قافلته في (والاتا) حيث إستقبله (فاربا حسين) ملك مالي : (( لقد وقف تجارنا في حضوره وخاطبهم من خلال شخص ثالث ، مع أنهم كانوا يقفون قريبا منه . إن ذلك أظهر قليلا من التقدير إليهم . إن ذلك لم يسرني بل إمتعضت بمرارة كوني أجيء إلى بلد يظهر فيه سكانه سلوكا غير مهذبا وإستخفافا بالبيض )) . من جهته رصد (ديلافوسي) الذي جرى إيراد تعليقه الهام عن إمبراطورية مالي سابقا ، أن (( قاو قد إستردت إستقلالها ما بين وفاة (كانكان موسى) وقدوم (سليمان منسا) وبعد حوالي قرن بدأت إمبراطورية (ماندينقو) في الإنهيار تحت هجمات الـ (سونغاي) ، غير أنها إحتفظت بما يكفي من سلطة وهيبة فيما يخص سيادتها لدرجة التفاوض بالتساوي مع ملك البرتغال الذي كان يومها في قمة مجده )) .
بناء على ذلك فإن أباطرة أفريقيا السـوداء كانوا بعيدين عن أن يكونوا ملوكا ضعفاء ، يفاوضون رصفائهم الغربيين الأكثر قوة على أرضية متساوية . بناء على قوة الوثائق التي بحوزتنا فإننا نستطيع أن نمضي بعيدا ونشدد على أن الإمبراطوريات السودانية الجديدة قد سبقت الإمبراطوريات المقابلة لها في أوروبا بقرون عديدة . من المرجح أن تكون إمبراطورية غانا قد تأسست في حوالي القرن الثالث بعد الميلاد وأستمرت حتى عام 1240م . كما نعلم فإن (شارلمان) هو مؤسس أول إمبراطورية غربية حيث جرى تتويجه في عام 800 م .
[/rtl]
salih sam
لـــواء
الـبلد : المهنة : College studentالمزاج : اللهم سلم السودان و اهل السودان التسجيل : 09/05/2011عدد المساهمات : 7924معدل النشاط : 6296التقييم : 271الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 17:49
[rtl](12)..........[/rtl] [rtl] لقد كانت عظمة الإمبراطورية الغانية في كل جانب تماثل أو تتفوق على إمبراطورية مالي . هكذا إذن كانت الدول الأفريقية في الوقت الذي كانت فيه على وشك الدخول في إتصال مع العالم الغربي الحديث . في ذلك الوقت كانت هناك في الغرب ملكيات مطلقة فقط ، بينما في أفريقيا السوداء كانت الملكيات دستورية . كان الملك يعاونه مجلس الشعب يجري إختيار أعضائه من طبقات إجتماعية مختلفة . كان هذا النوع من التنظيم موجودا في كل من غانا ، مالي ، قاو ، ياتينقا . كايور ، الخ .. إن هذه لم تكن البداية بل الأصح أنها جاءت نتاج تطور طويل المدى ، ببداية يمكن إكتشافها فقط بالعودة إلى بلاد النوبة ومصر ، حيث لا سبيل أخر لإعادة تحديد إستمرارية تلك السلسلة من تاريخ أفريقيا ، من غير العودة إلى السودان المروي ومصر . حينما حدث الإتصال الثاني بين أوروبا وأفريقيا السوداء عبر الأطلسي تم ذلك عن طريق الأساطيل البحرية ذات الأسلحة بعيدة المدى والأسلحة النارية المتاحة في أوروبا وذلك بفضل التقدم الفني في شمالي المتوسط والذي كفل لأوروبا تفوقها . لقد تمكنوا من الهيمنة على القارة وتشويه الشخصية الزنجية . إن ذلك يبين كيف أن المسائل لا تزال عالقة وكيف أن ذلك تسبب في تغيير لاحق للتاريخ المتعلق بمنشأ الحضارة المصرية .
بجانب الوحدة السياسية فإن الوحدة الثقافية أكدت ذاتها فعلا داخل الإمبراطوريات المختلفة . لقد أصبحت لغات بعينها لغات رسمية لأن الإمبراطور كان يتحدث بها فخدمت كلغات إدارية قبل أن تبدأ في الهيمنة على اللغات الأخرى التي مالت لأن تصبح لهجات محلية مثلما أصبحت لغات كالبريتون ، الباسك لهجات عامية في فرنسا . بتحطيم هذه الروابط والروابط الثقافية الأخرى فإن الإستعمار إعاد اللهجات مرة أخرى إلى الظهور ، مفضلا تطوير فسيفساء لغوية . ربما حدثت نتائج مماثلة في فرنسا بعد قرون قليلة من الإحتلال الألماني لها ، مما شجع على بروز اللهجات المحلية سالفة الذكر وألحق ضررا باللغة الفرنسية التي كانت قد بلغت سلفا منزلة اللغة القومية . بناء على ذلك كان من الواضح أن هناك تدهورا حدث في القارة السوداء خاصة على مستوى الجماهير بسبب الإستعمار . إن ذلك قد فرض بالتأكيد إرتدادا لقبائل معينة جرى تهجينها تدريجيا ودفع بها مرة أخرى إلى الغابة . لذا فإنه سيكون من الخطأ بشكل مضاعف أن نأخذ اليوم ظروف أؤلئك السكان الذين بدوا أكثر أو أقل بدائية كدليل على أن أفريقيا السوداء لم يكن لها أبدا حضارة أو ماض والقول بأن السود لهم عقلية بدائية غير ديكارتية ولهم عداء مع الحضارة وهكذا . إنّ هذا التراجع وحده يمكن أن يفسر السبب الذي جعل السكان في دول متخلفة نسبيا يحتفظون بتقاليدهم ذلك أنه يكشف عن مرحلة من التنظيم الإجتماعي وتصور للعالم لم يعد يتوافق مع مستواهم الثقافي .
هناك واقعة مماثلة في أوروبا يمكن الإستشهاد بها وهي إنتكاسة السكان البيض الذين يقيمون اليوم في الأودية السويسرية المعزولين بفعل الجليد مثل أؤلئك الذين في وادي (لوتشنثال) . إن هؤلاء البيض لا يزالون همجيون حتى اليوم ، بالمعنى الذي ترمي إليه كلمة البوشمن والهوتنتو ، فهم يرتدون الأقنعة ذات الملامح التكشيرية وتلك التي يغلفها الألم ، مما يشير إلى رعب كوني لا نجد له مثيلا إلا عند الإسكيمو . يمتلك متحف جنيف مجموعة ممتازة من هذه الأقنعة . بالمقارنة يمكن للمرء أن يلاحظ صفاء الفن الزنجي الذي يعكس إعتدال المحيط الطبيعي وكذلك الإلفة الروحية على الأقل للقوى الكونية . عوضا عن الظاهرة التي تعذر تفسيرها والتي تخيف الخيال فإن هذه القوى تكاملت مسبقا في نظام عام لتفسير العالم بالنسبة لهم . بدراسة فترتها فإن هذا النظام كان معادلا للفلسفة . لقد هيمن الزنجي على الطبيعة جزئيا من خلال التقنية ، غير أنه في الأغلب الأحوال سيطر عليها بروحه ، إذ لم تعد الطبيعة تخيفه . بنفس الرمز فإن الفن التعبيري الزنجي ( في ساحل العاج والكونغو) لم يكن يعكس التعذيب ، بل كان نوعا من الحركة التشكيلية .
* المشاكل التي يسببها الشعر المسترسل والملامح المنتظمة : عند هذه النقطة علينا القول بأنه لا الشعر المسترسل ولا الملامح المنتظمة هي حكر على الجنس الأبيض . إن هناك سلالتين سود ذات تعريف جيد : إحداها لها بشرة سوداء وشعر أصوف ، الثانية لها أيضا بشرة سوداء لكنه في الغالب سواد إستثنائي مع شعر مسترسل ، أنف نسرية ، شفاه رقيقة ، زاوية حادة لعظام الخد . إننا نجد نموذجا لهذه السلالة في الهند ونقصد به الدرافيديون . كذلك من المعروف أنّ هناك نوبيون ينتمون إلى نفس هذا النوع الزنجي وقد أورد هذه الإفادة المؤرخ الإدريسي الذي أشار إلى (( أن النوبيين هم الأكثر وسامة في السود ولنسائهم شعر مسترسل وشفاه رقيقة )) .
لذا فمن الخطأ والمخالفة العلمية أن نقوم ببحث أنثربولوجي نواجه فيه سلالة درافيدية ثم نتوصل إلى أن النوع الزنجي غير موجود . إن ذلك ما فعله دكتور ماسولار في الإبلاغ عن عمل الآنسة / ستويسجر عن جماجم تعود إلى الحقبة البدارية . إن هذا التناقض هو الأكثر فداحة لأن هذه الجماجم ذات بروز في الفكين والأسنان وهذه المميزات لا توجد إلا عند الزنوج أو شبه الزنوج : (( تختلف الجماجم البدارية قليلا جدا عن الجماجم الأقل قدما والتي سبقت فترة الأسرات فهي ذات فكين أكثر بروزا . تليها الجماجم الأكثر شبها بجماجم الهنود البدائيين : الدرافيديون والفيداس . إن هذه الجماجم تكشف عن تشابهات قليلة مع الزنوج والعائدة بلا شك إلى الإمتزاج الأكثر قدما بالدم الزنجي )) ماسولار– ص 394 .
بهذه المعارضة الخيالية فإنه يمكن تبييض الجنس المصري الذي كان حتى في عصور ما قبل التاريخ – مثلما يظهر هذا النص – لا يزال أسودا ، بالرغم من المزاعم التي لا تستند على أساس علمي والتي تصر على أنّ المصريين كانوا بيضا أصلا أو القول وإن كان ذلك زائفا بأنهم إمتزجوا لاحقا مع الزنوج . إنه من المعتاد الإشارة إلى مومياءات ذات شعر مسترسل جرى إختيارها بعناية بحيث تكون هي الوحيدة المتواجدة في المتاحف ، للتأكيد على أنها النمط النموذجي للجنس الأبيض بالرغم من بروز الفكين . تعرض هذه المومياءات بشكل لافت في محاولة لإثبات بياض المصريين ، غير إن خشونة شعورها لا يسمح بقبول تلك العلاقة . حينما يتواجد مثل هذا الشعر على رأس مومياء فإنه يشير إلى النوع الدرافيدي ، بينما بروز الفكين وسواد البشرة – تستبعد فكرة الجنس الأبيض . إن عملية الإختيار المتحذلقة التي إتبعوها ، تستبعد أي إمكانية لجعل هذه المومياءات نمطا نموذجيا . في الواقع فإن (هيرودتس) أخبرنا بعد أن رأى المصريين بأن لهم شعر أصوف . كما لاحظنا سابقا فإن المرء قد يتعجب بأن لا تعرض مومياءات بمثل هذه الصفات . هناك ملاحظة يمكن أن تبرهن إفادة (هيرودتس) عن شعر المصريين الأصوف وهي تمشيطات الشعر الصناعية التي لا تزال نساء أفريقيا السوداء يرتدينها . لماذا على إمرأة بيضاء ذات شعر جميل طبيعي أن تخفيه تحت شعر المصريين المستعار الخشن ؟ إن علينا أن ننظر لذلك كمظهر للقلق الدائم للنساء السود فيما يخص مشكلة الشعر . على أي حال فإنه من الواضح أنه لا يمكننا أن نعتمد على نوعية الشعر لضمان بياض الجنس .
* الجنس الأسود المسترق : تحاول كتب معينة نشر فكرة مفادها أن الجنس الأسود المسترق عاش على إمتداد العصور القديمة بجانب الجنس الأبيض مما أدى إلى تغيير صفات ذلك الجنس بشكل بطيء . إنّ الإتصالات بين هذين الجنسين منذ عصور ما قبل التاريخ هي حقيقة مؤكدة ، من دون أن نقرر أهمية تلك الإتصالات في المناطق المختلفة التي جرت فيها ، لكن دراستنا الموضوعية للوثائق المتاحة عن تلك العهود القديمة تجبرنا على عكس العلاقات التي أقيمت أولا بين الجنسين من عيلام إلى مصر . إنّ حفريات (ديلافوسي) تكشف عن أن أول أسرة حاكمة في (عيلام) تنتمي إلى الجنس الأسود . تظهر لنا سلسلة التماثيل التي تعود إلى العصر العمري أسيرا أبيضا في مصر وعلى الجانب أسود يتجول بحرية . إنّ الجنس الأبيض لم يتحرر تماما حتى نهاية الحقبة الإيجية وهي الفترة التي تميزت بظهور لشمالي المتوسط على المشهد .
* اللون الأسمر المحمّر للمصريين : ربما ساعد تغلغل الجنس الأبيض إلى مصر في عصور ما قبل التاريخ ، والذي يعكسه صورة ذلك الأسير المهزوم في تلك التماثيل ، على تبييض بشرة المصريين . بمعنى أخر ربما ظهرت الأقلية البيضاء لاحقا لتهجّن جنسها بالأساس الزنجي وذلك لأن الوادي كان جاذبا للرعاة الآريين والساميين . لكن ما هو مؤكد هو غلبة العنصر الأسود منذ بداية التاريخ المصري وحتى نهايته ، بل حتى أن التهجين المكثف في العصور الأدنى لم تفلح في إقصاء الصفات الزنجية للجنس المصري . إنّ هذا الخليط الزنجي المصري والسامي أو الآري جاء عقب تطور في مجرى التاريخ المصري نتيجة للتوجهات التجارية . خلال الحقبة الإيجية إنعكس ذلك في إختطاف (إيو) بواسطة الفينقيين . في الواقع فإن الفينقيين شعب شبه زنجي وهم أبناء عمومة المصريين بشكل أقرب أو أبعد وقد خدموهم كبحارة على إمتداد تلك الفترة . من بين التبادلات التجارية الأخرى بين مصر المتحضرة وأوروبا التي كانت يومها بربرية ، إنخرط الفينيقيون في تجارة الرقيق الأبيض . كما ذكرنا فإن (إيو) قد خطفت من اليونان وبيعت للفرعون بثمن غال ، بسبب لون بشرتها البيضاء الذي كان نادرا ، واقعة ترمز إلى تلك التجارة التي من الصعب للحد البعيد إنكارها أو التقليل من مداها .
إنّ ذلك يمكن أن يفسر اللون الأسمر المحمّر لبشرة المصريين ، مع أنهم ظلوا يحملون (شفاها غليظة مرتدة بالتساوي) ، (فم واسع لحد ما) ، (أنف مكتنزة) مثلما يورد ماسبيرو . من الواضح أنّ المصريين لم يتوقفوا أبدا من أن يكونوا زنوجا . إنّ اللون المميز الذي ينسب إليهم ، يمكن أن نراه اليوم بين ملايين الزنوج في كل أنحاء أفريقيا السوداء . إنه من الشائع إيراد ذكر المصطبة أو رسومات المدافن المصرية كمكان لتمييز (النحاسي) من (الروميتو) أي السود عن ما يسمى بالمصريين . إن ذلك معادل لتمييز الوولف عن البامبرا ، الموسي من التوكولور وهم في ذلك مخطئين في نسب الأخير للمصريين أو لجنس أخر مختلف عن الجنس الأسود الذي يمثله الوولف . بالنسبة للأفريقي فإن هذا تقييم دقيق للتمييزات التي تجرى عادة على أساس الرسومات المصرية . إضافة إلى ذلك فإن كل رسومات المصطبة كانت معروفة قبل (شامبليون) كما لوحظت درجات تلك الألون من قبل . لقد جرى التأكيد على أنّ الأنماط التي جرى تصويرها كانت زنجية ، لأنه حتى ذلك الوقت عرف عن مصر أنها بلد زنجي ، بل أنّ الفن المصري نفسه أعتبر فن زنجي لذا فهو لا يثير الإهتمام . إنّ هذا الرأي لم يتغير حتى اليوم الذي جرى فيه الإعتراف بشكل مدهش أنّ مصر هي أم كل الحضارات ، ثم تغيرت الرؤية بحيث إمكن تمييز الزنوج على الرسومات وتدرجات الألوان (سلالة بيضاء ببشرة حمراء) ، (سلالة بيضاء ببشرة حمراء داكنة) ، (سلالة بيضاء ببشرة سوداء) ، لكنهم لم يميّزوا أبدا المصريين كجنس أبيض ببشرة بيضاء .
* النقوش على مسـلة (فيله) : بسبب هذه النقوش التي ميّزت الحدود بين السودان البمروي ومصر بعد الإضطرابات التي حدثت إبان عهد الأسرة الحاكمة الثانية عشرة فقد جرى التوصل غالبا إلى أن ذلك فصّل جنسين مختلفين ، بحيث حظرت المسلة دخول السود إلى مصر . إن هذا الإستنتاج هو خطأ محزن ، حبث أن تعبير (أسود) لم يستخدم أبدا من قبل المصريين لتمييز السودانيين المرويين عن أنفسهم فقد كانوا يشيرون إلى بعضهم بأسماء القبائل أو المناطق التي ينتمون إليها ولكن ليس أبدا بالنعوت التي تتعلق باللون ، مثلما في الحالات التي تقتضي الإتصال بين جنس أبيض وجنس أسود . إذا كان على الحضارة الحديثة أن تختفي اليوم وأن تبقى المكتبات سليمة ، فإن الناجين يمكن أن يطلعوا على أي كتاب ويلاحظوا فورا أن السكان الذين يعيشون جنوب الصحراء كان يشار إليهم بالسود . إنّ تعبير (أفريقيا السوداء) كاف للإشارة إلى أن سكانها من الجنس الأسود . في المقابل فإننا لا نجد شيئا مماثلا في النصوص المصرية فمتى ما إستخدم المصريون كلمة أسود (كيم) إنما كانوا يشيرون بها إلى أنفسهم أو بلادهم : (كيميت) أرض السـود .
في الواقع فإننا لا نجد واحدا من الكتب الحديثة الموثوقة تذكر تعبير (السود) كما لو إستخدمه المصريون لتمييز أنفسهم عن السود فحيثما ورد ذلك فإنه لا يعدو كونه تحريف فهم يترجمون كلمة (نحاسي) إلى (سود) لتخدم تبريراتهم . إنّ ما هو غريب بما يكقي هو أن كلمة (كوشيين) أصبحت تتعارض مع فكرة (السود) حالما يشار إلى السكان الأوائل الذين حضّروا الجزيرة العربية قبل (النبي محمد) ، أرض كنعان قبل اليهود (فينيقيا) ، بلاد ما بين النهرين قبل الآشوريين (حقبة الكلدانيين) ، عيلام ، الهند قبل الآريين . إنّ هذه واحدة من المتناقضات الكثيرة التي تظهر خوف المتخصصين من الكشف عن الحقائق التي إكتشفوها . إن عملياتهم الإستدلالية يمكن وصفها على النحو التالي : مع التسليم بالأفكار التي درست عن الزنوج فإنه حتى إذا أثبت الدليل بشكل موضوعي أن الحضارة قد صنّعها هؤلاء الزنوج ( الكوشيين ، الكنعانيين ، المصريين ، الخ .. ) فإن ذلك يحب أن يكون خطأ . بالبحث الجاد فإن علينا أن نعثر على المقابل . لذا فإن الطريقة التي لا غنى عنها لإكتشاف الحقيقة المضّمنة في هذه الوثائق بالرغم من وضوحها ، تعتمد على تفسير هذه التعابير : كوشي ، كنعاني ، الخ ..
كذلك يحدث تزوير مماثل عند إستدعاء شهادات مؤلفين قدامى أمثال (هيرودتس) ، (ديودرس) أو الرحالة القرطاجنيين الأوائل ، إذ كان علينا أن نصدق بأن هؤلاء المؤلفين ميّزوا بين المصريين والسود وينطبق ذلك على (ديلافوسي) كمثال حينما كتب في كتابه (زنوج أفريقيا) على ص 20 – ص 21 : (( هناك فقرة في كتاب (التاريخ) لهيرودتس مفيدة في هذا الخصوص . في الكتاب الثاني – الفقرة (29) (30) – حدد لنا المؤلف الأغريقي الحدود الشمالية التي بلغها الزنوج في أيامه في وادي النيل والذين سمّاهم (الإثيوبيين) . إن هذه الحدود متطابقة تقريبا مع الحدود التي وصلوا إليها في أيامنا هذه . يخبرنا هيرودتس بأنه وجد السود بالفعل في أعلى (أسوان) ، أي أعلى النهر من الشلال الأول ، بعضهم مستقرون وبعضهم رحل ، يعيشون جنبا إلى جنب مع المصريين )) . بفحص هذه الإفادة مع الفقرة الأصلية يمكننا ملاحظة التحريف . إن ما أورده (ديلافوسي) يقودنا للإعتقاد أنّ السود والمصريين كانوا مختلفين بحسب (هيرودتس) . إنّ الكتاب الثاني لـ (هيرودتس) الذي إقتبس منه (ديلافوسي) يخبرنا بأن المصريين كانت لهم بشرة سوداء وشعر أصوف . إن هذه هي الوسيلة التي يعمدون إليها في تحريف ما دونه الكتاب القدامى ، فيما تمر في صمت شهاداتهم المربكة . إنّ هذه الإقتباسات المزورة والمعدّلة خطيرة للغاية للدرجة التي يمكن أن تعطي العامة إنطباعا بالمصداقية .
تشير الوثائق المصرية أنه منذ 4.000 عام قبل الميلاد كان السودان المروي بلدا مزدهرا له روابط تجارية مع مصر . كان الذهب متوفرا وربما نقل السودان المروي في ذلك الوقت إلى مصر الرموز الهيروغلوفية الإثنا عشر التي كانت النواة الأولى للأبجدية . يعد محاولات عديدة للغزو تحالف السودانيون والمصريون ودمجوا قواتهم وسيروا بها حملات إلى البحر الأحمر والتي قادها بيبي الأول (الأسرة الحاكمة السادسة) . عندئذ حكمت بلاد النوبة بواسطة ملك إسمه (أونا) والذي أصبح حاكما لمصر العليا في عهد الحلف (بيبي الأول) . إستمر هذا التحالف حتى الأسرة الحاكمة الثانية عشرة على أقل تقدير ، ثم فرض (سنوسرت الأول) الوصاية بنجاج على بلاد النوبة :
(( غير أنه تم التخلص من العبودية في عهد (سنوسرت الثاني) في ظروف جعلت مصر نفسها تخاف من الغزو . لذا فقد أنشئت الإستحكامات والقلاع بين الشلال الأول والثاني لإيقاف النوبيين . لقد كان من الصعب لمصر أن تستدعي القبائل البدوية التي يقودها أبشاي من سوريا ، غير أن (سنوسرت الثالث) إستطاع عبر أربعة حملات عسكرية أن يضع حدا لذلك التهديد . تم إستعادة الحدود أعلى النهر حيث بنيت قلاع جديدة ، في نفس الوقت الذي أقيمت فيه مسلة جديدة تحظر مرور السود )) بيدرال – ص 45 . بإستثناء الإستخدام الخاطيء لتعبير (السود) الذي إنتهى به الإقتباس فإن هذه الفقرة تكشف عن طبيعة الوقائع التي عجّلت بقيام مسلة (فيله) . إن هذه الأحداث تظهر أن الحليف السوداني كان على وشك فتح مصر التي عملت على تنظيم دفاعاتها ومن ثّم إقامة مسلة (فيله) . عليه فإنه لا يمكن تفسير إقامة المسلة بالمعنى الذي أراده أخرون .
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 17:52
تنبيه شديد
الحوار جميل بين العضوين كابو وصالح ارجوا المحافظه عليه والابتعاد عن الردود الجانبيه والتي فيها اساءات شخصيه
هذه المره سيتم حذف المساهمات الخارجه عن الموضوع فقط
في حال استمرار المخالفات سيكون الرد اكثر حزما
تحياتي
salih sam
لـــواء
الـبلد : المهنة : College studentالمزاج : اللهم سلم السودان و اهل السودان التسجيل : 09/05/2011عدد المساهمات : 7924معدل النشاط : 6296التقييم : 271الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 17:55
(13)...........
[rtl] الفصل التاسع إعمار أفريقيا بالسـكان من وادي النيل
إن الحجج المقدمة للدفاع عن النظرية التي مفادها أن أفريقيا السوداء قد عمّرت سكانيا من أوقيانسيا عبر المحيط الهندي هي حجج لا تستند إلى أساس . في الواقع لا توجد حقيقة أثرية أو غيرها تخوّل لنا البحث عن موطن أصلي للزنوج خارج أفريقيا . هناك أساطير من غرب أفريقيا تفيد بأن السود هاجروا من الشرق من منطقة (المياه العظيمة) وهي المنطقة التي حددها (ديلافوسي) ومن دون تقديم أي دليل إضافي بأنها المحيط الهندي ، مفترضا بعد ذلك بأن مهد الحضارة كان في آسيا ، نظرا لإكتشاف إنسان جاوا وإنسان الصين وبسبب ما ورد في الكتاب المقدس عن (آدم وحواء) . ما نعلمه عن علم الآثار في جنوب أفريقيا التي يبدو أن البشرية كان مولدها فيها وما نعلمه عن الحضارة النوبية التي من المرجح أن تكون الأقدم بين كل الحضارات وما نعلمه عن عصور ما قبل التاريخ في وادي النيل ، يجعلنا نفترض وبشكل شرعي بأن (المياه العظيمة) ليست سوى نهر النيل .
أيّا كانت الأساطير التي تحدثت عن نشأة الشعب الأفريقي الأسود فأن الذين لا يزالون يتذكرون أصلهم يقولون أنهم جاءوا من الشرق وأن أسلافهم وجدوا الأقزام في البلاد . إن أساطير الـ (دوجون) والـ (يوروبا) تفيد بأنهم جاءوا من الشرق ، بينما تشير أساطير الـ (فانق) الذين لم يكونوا قد وصلوا بعد إلى ساحل الأطلسي في القرن التاسع عشر إلى أنهم جاءوا من الشمال الشرقي . أما أساطير الـ (باكوبا) فتشير إلى أن الشمال هو أصلهم . أما بالنسبة للشعوب التي تعيش جنوب النيل فإن تقاليدها توحي بأنهم جاؤا من الشمال . إن ذلك صحيح بالنسبة للباتوستي في رواندا – أورندي . حينما وصل البحارة الأوائل إلى جنوب أفريقيا وحطوا في الكاب قبل قرون عديدة ، لم يكن (الزولو) الذين هاجروا من الشمال إلى الجنوب قد وصلوا إلى الكاب بعد . تتوافق هذه الفرضية مع حقيقة أن تقاليد السود في وادي النيل تشير إلى أنها محلية المنشأ . على إمتداد العصور القديمة فإن النوبيين والأثيوبيين لم يزعموا أنهم ينتمون إلى جهة سوى الجنوب الأبعد . إن هذا يلخص الأساطير القديمة التي أوردها (دافزاك) بسخرية ، غير أن ذلك لا يقلل من أهميتها :
(( هناك أخرون من الحالمين ذوي المعرفة الواسعة ، والمتخصصين البارعين في علم الوظائف ، بدلا من البحث عن تاريخ مبكر للأفارقة في التراث الذي فقدوه اليوم تقريبا ، فضلوا الخوض في فرضيات ذات مخاطرة ، فيما تقدم رواياتهم التخمينية الإنسان الأسود على أنه أقدم إنسان مخلوق ، إبن الأرض والصدفة الذي ولد في الجبال الثلجية للقمر (في أفريقيا الوسطى) والتي أصبحت لاحقا مهد الإنسان الذي هبط منها إلى (سنار) وأنجب المصريين والعرب وشعوب الأطلسي . لقد كان الجنس الأسود ولفترة طويلة الأكثر عددا فتفوق على الجنس الأبيض وهيمّن عليه ، غير أن البيض تكاثروا تدريجيا وتخلصوا من إسترقاق أسيادهم . لقد أصبح العبيد السابقين سادة بدورهم وقضي على السود أن يرسفوا في الأغلال التي حطمها البيض . لقد مرت قرون على ذلك غير أن غضب البيض لم يهدأ بعد )) .
إن تلك الأسطورة تختصر تاريخ البشرية في سطور قليلة ، غير أنّ ما هو جدير بالملاحظة هنا هو الأصل الجنوبي لسكان وادي النيل الذي طالما أكّده النوبيون والمصريون . ما هو ملاحظ أيضا الوصول المبكر للإنسان الزنجي إلى طريق الحضارة والوضع العكسي اليوم . إنه الإنسان الذي هبط إلى سنار التي هي بلا شك السهل الذي يقع بين النيل الأبيض والنيل الأزرق ، نقطة الإنطلاق للحضارة المروية . إن تسمية (سنار) تطلق أيضا على سهل في بلاد ما بين النهرين وهو يقع بين دجله والفرات : فأي التسميتين أصحّ وأوثق ؟ يبدو أن الثانية منقولة من الأولى . إن تصحيح هذا الخطأ سوف يعكس إتجاه التاريخ مرة أخرى . عندها سوف يصبح من الطبيعي أن يكون إعمار مصر سكانيا قد تم من سهل سنار وبذا فإن الأسطورة سوف تتوافق مع التاريخ .
بجانب الأساطير الحالية للشعوب الأفريقية وكل ما ذكر تقريبا عن حوض النيل والأقزام الذين سكنوا الأجزاء الداخلية من القارة قبل إنتشار السود ، دعنا نستشهد بفقرتين لـ (هيرودتس) تؤكد ذلك : (( إذن فقد أرسل الشباب في مهمة من قبل زملائهم ، مزودين بقدر وافر من الماء والمؤن ، سافروا أولا عبر منطقة مأهولة بالسكان ثم ببقعة بها وحوش ضارية وأخيرا دخلوا على الصحراء التي عبروها من الشرق إلى الغرب . بعد السفر لأيام طويلة على أرض رملية واسعة ، وصلوا في النهاية إلى سهل لاحظوا فيه أشجار نامية وعندما إقتربوا منها رأوا الثمار عليها وشرعوا في جمعها ثم أكلها . عندها هجم عليهم بعض الأقزام الذين قبضوا عليهم وأقتادوهم عبر مستنقعات واسعة إلى بلدة سكانها جميعهم من الأقزام ذوي البشرة السوداء . لم يكن للأقزام معرفة بأي لغة . كان هناك نهر كبير يتدفق بجانب البلدة من ناحية الشرق إلى الغرب يحتوي على تماسيح )) .
ربما كان النهر مثار التساؤل هو نهر النيجر ، لأننا نعرف وخلاف ما يعتقد (هيرودتس) فإن النيل بعد عبوره أفريقيا من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي ، لا ينحني ليتدفق من الجنوب إلى الشمال فيما بعد إثيوبيا . أما الفقرة الثانية فتشير إلى رحلة (ساتاسبس) بن (تيسبيس) الذي نال العفو من (قورش) بفضل إلتماس من أمه بعد أن كان على وشك الصلب فغادر بلده عابرا مضيق طارق مبحرا نحو الجنوب . مع أنه لم يكمل الرحلة إلا إنه إستطاع تدوين الملاحظات التالية عن الساحل الأطلسي لأفريقيا : (( لقد نقل إلى قورش بأنه عند أقصى نقطة وصل إليها ، وجد أن الساحل مأهولا بالأقزام الذين كانوا يرتدون ملابس من شجر النخيل ، مضيفا بأنه حيثما حطّ فإن هؤلاء الأقزام كانوا يتركون بلداتهم ويفرون إلى الجبال ، غير أن رجاله لم يمسوهم بأذى ، فقط كانوا يأخذون بعضا من ماشيتهم عند دخولهم بلداتهم )) . بإختصار فإن هناك توافق بين الأساطير الزنجية الحالية والوقائع التي أوردها (هيرودتس) قبل 2.500 عام . بالتالي فإنه ربما كان الأقزام أول من سكن الأجزاء الداخلية للقارة ، على الأقل في فترة معينة . لقد إستقروا هناك قبل قدوم السود الطوال وبذا يمكننا الإفتراض بأن الجنس الأخير أي السود شكّلوا نوعا من التجمعات حول وادي النيل وفي دورة من الزمن إنتشروا في كل الإتجاهات نتيجة النمو السكاني والتقلبات التي تحدث أثناء تاريخ الشعوب .
إن هذا ليس مجرد تصور ذهني أو فرضية بسيطة قيد الدراسة . إن معرفتنا بعلم نشوء الأعراق الأفريقي يمكننا من التمييز بين فرضية وحقيقة تاريخية مؤكدة . إن الأساس الثقافي المشترك لكل السود الأفارقة خاصة الأساس اللغوي المشترك يبرر الفكرة . علاوة على ذلك فإن هناك أسماء طوطمية لعشائر أفريقية يحملها كل الأفارقة بشكل جماعي أو فردي وفقا لمدى إنتشارها . إن تحليل هذه الأسماء مع البحث اللغوي السليم ، يمكننا من التقدم من درجة الإحتمالية إلى مستوى اليقين . [/rtl]
salih sam
لـــواء
الـبلد : المهنة : College studentالمزاج : اللهم سلم السودان و اهل السودان التسجيل : 09/05/2011عدد المساهمات : 7924معدل النشاط : 6296التقييم : 271الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 17:58
[rtl] الفصل العاشـر التطور السياسي والإجتماعي لمصر القديمة
(أ) الدورة الأولى : المملكة القديمة : لقد جاء أول توحيد سياسي لوادي النيل من الجنوب على يد مملكة (نخن) في مصر العليا . تستعرض لوحة (نعرمر) التي إكتشفها (كويبل) في (هيراكونبوليس) الوقائع المختلفة لذلك الحدث . لقد حدد (كابارت) ذلك على نحو صحيح ، إنه (نعرمر) والملك مينا الأسطوري المصّور على اللوحة (5) . كانت عاصمة المملكة الموحدة قد نقلت إلى (تينيس) بالقرب من (أيبدوس) وأمتدت أول فترة لأسرتين حاكمتين من تلك العاصمة من (3000 – 2778) . بقدوم الأسرة الحاكمة الثالثة (2778 – 2723) إكتملت مركزية الدولة الملكية . لقد كانت كل العناصر التقنية والثقافية في المكان المناسب وكان فقط على تلك العناصر أن تدوم وتزدهر . لقد أدخل الفرعون (زوسر) لأول مرة في مصر الفن المعماري في الحجر المنحوت وأستطاع أن يهيمن بوجهه الصارم ذو الملامح المميزة على تلك الفترة (لوحة 6) . في الواقع فإن الفراعنة الأخرين لم يكونوا سوى شبه زنوج . لقد أكد (بيتريه) بأن هذه الأسرة الحاكمة التي كانت أول أسرة تمنح الحضارة المصرية ملامحها ونموها التام ، أسرة نوبية سودانية الأصل . لقد كان من السهل التعرف على الأصل الزنجي للمصريين عند تطابق الكشف الأولي لحضارتهم مع الأسر الحاكمة الزنجية بلا ريب . إن الملامح الزنجية لوجه ( تيرا نتير ) في ما قبل عصر الأسرات وتلك التي للملك الأول الذي وحّد الوادي ، تثبت أن تلك هي الفرضية الصحيحة الوحيدة (ص 4) . بالمثل فإن الملامح الزنجية لفراعنة الأسرة الحاكمة الرابعة ، بناة الإهرامات العظيمة تؤكد ذلك (اللوحة 7 – 10).
بدراسة الأشكال حسب الترتيب الزمني فإننا نرى صورا متجانسة عرقيا ، يمكن أن تدلنا على الأصل الحقيقي لقدماء المصريين ، ذلك أنه وفي ظل المملكة القديمة وقبل الإتصالات الواسعة مع سلالات البحر المتوسط ذات البشرة البيضاء ، لم يكن الجنس المصري الزنجي قد مسّه التهجين . يكتب (جاك بيرين) : (( مع المركزية الإدارية في عهد الأسرة الحاكمة الثالثة لم تعد هناك أي طبقة نبيلة أو ذات حظوة . كان رجال الدين حرّاسا للمعتقد الديني ومن يثبتون حكم الملك ، يشكلون جماعة جيدة التنظيم ذات إستقلال نسبي . حتى ذلك الوقت مارست الجماعة وصايتها الروحية عند تتويج الملك في معبد (هليوبوليس) ولكن لجعل هذه السلطة مطلقة فإن الملك إصطدم مع رجال الدين ومن يومها عدل الملك عن تتويج (هليوبوليس) وأصبح يتوج نفسه في قصره بـ (مفيس) وأعلن قدرته على كل شيء من خلال الحق الإلهي ، مضيفا لقب (الإله العظيم) إلى ألقابه وأصبح متحررا من أي سيطرة بشرية . إن ظهور الأسرة الحاكمة الرابعة مع إهرامات الجيزة ، أبان أن الدولة الملكية قد وصلت ذروتها . بعد ذلك إتجه النظام مرة أخرى نحو الإقطاعية . تنشيء الدول أجهزة خاصة ذات مكانة تديرها بالوراثة ثم سرعان ما يتحول ذلك التوريث إلى حق . إن هذه الدورة التي وصفت تكررت أكثر من مرتين بشكل يكاد يكون متطابقا ، لذا كان على تاريخ مصر القديمة أن ينتهي من دون أي تطوير في جمهورية أو صياغة لفكر علماني حقيقي . إن النظام الإقطاعي الذي كانت له الغلبة مع الأسرة الحاكمة الخامسة وصل ذروته مع الأسرة الحاكمة السادسة . عندها أفرز هذا النظام ركودا عاما في الإقتصاد وإدارة الدولة في المناطق الحضرية والريفية وكان على الأسرة الحاكمة السادسة أن تنتهي بثورة شعبية هي الأولى في تاريخ مصر .
لقد كان من الواضح أن تقسيم العمل على أساس الحرفية المهنية كان موجودا . بلا شك فإن المدن كانت مراكز تجارية نشطة مع شرقي البحر المتوسط . لقد كان للفقر والبطالة التي عانت منها الجماهير دورا فاعلا في الثورة . إن أعراف النبالة أوجدت طبقة خاصة من الرجال : عاملين يجري التعاقد معهم لتولي مناصب مختلفة . إن النص الذي يصف هذه الأحداث يبين أن البلاد قد إنغمست في الفوضى ويظهرسلطة متزعزعة خاصة في الدلتا مع غارات الآسيويين فقد إحتكر الأخيرون الوظائف المخصصة للمصريين في ورش العمل المختلفة وفي ساحات البناء الحضرية . إنّ بؤس (مفيس) العاصمة والحرم المقدس للملكية ، أدى إلى نهبها وسلب أغنيائها وإقتيادهم في الشوارع وسرعان ما إنتشرت الثورة إلى المدن الأخرى . كانت (سايس) تحكم بواسطة مجموعة تتكون من عشرة رجال مرموقين . جرى وصف الوضع في أنحاء المدينة على نحو لاذع في هذا النص :
(( لقد أصبح اللصوص أصحاب أملاك فيما سلب الأغنياء السابقين فقد ضرب أؤلئك الذين يرتدون الثياب الجميلة وقدر على النساء اللائي لم يخرجنّ قط أن يخرجنّ الآن. أما أطفال النبلاء فقد قذفوا تجاه الجدران . هجرت المدن وأشعلت النيران في الأبواب والأعمدة والجدران وقذف أبناء الكبار في الشوارع . أصبح النبلاء جوعى وفي كرب ، فيما فرّ الخدام الذين كانوا يعملون لدى السيدات النبيلات . أما أطفالهم فقد إنكمشوا خشية الموت وعمّ البلاد السخط . إرتدى المزارعون الدروع في الحقول وأصبح الأخ يذبح أخيه فيما أصبحت الطرق شراك منصوبة . أصبح المواطنون يكمنون للمزارعين عند عودتهم في المساء فيسرقون ما يحملونه ويضربونهم بالهراوات ويقتلونهم بلا خجل فيما يتجول قطيع الماشية ويستطيع أي رجل أن يقود بعيدا أي حيوانات يعمل على تمييزها . في كل مكان فسدت المحاصيل وعانى الناس النقص في الملابس ، البهارات ، الزيت . عمّت القذارة الأرض . نهبت مخازن الدولة وقتل حراسها . أكل الناس العشب وشربوا الماء ومن شدة جوعهم أكلوا الأكل المخصص للخنازير . قذف بالجثث في النهر وأصبح النيل مثوى للموتى ولم تعد هناك سرية في السجلات الحكومية )) .
يبدو أن هناك محاولة جرت في ذات الوقت لإنتهاك النصوص المقدسة ، غير أنه من الصعب تأكيد ذلك . هكذا فإن الدورة الأولى من التاريخ المصري إنتهت بإنهيار المملكة القديمة . لقد بدأت بالإقطاعية التي سبقت التوحيد السياسي الأول وأنتهت بالفوضى والإقطاعية . لقد غرقت الملكية في الإقطاعية دون أن تتعرض للهجوم بشكل مباشر . في الواقع فإن مبدأ الملكية لم يجري تهديده بشكل فادح. ربما كانت هناك محاولات قليلة للحكم الذاتي في مدن الدلتا كما في (سايس) ، غير أن ذلك ربما كان حلا مؤقتا ، فرضته فجائية الأزمة وضعف السلطة الرسمية التي أعقبت غزو الدلتا من قبل الآسيويين . لقد أجبرت المدن التي على طريق الغزو على تأمين سلامتها بينما هي تواجه عدوا مشترك . مواجهين بهذا الموقف فإن الحكام الإقليميين السابقين في كل من مصر العليا والوسطى أعلنوا أنفسهم سادة إقطاع مستقلين ، متحررين منذ ذلك الوقت من أي وصاية ملكية ، غير أنهم لم يتشككوا أبدا في مبدأ الملكية ذاتها . من جهتهم حاول كل واحد منهم أن يصبح ملكا على طريقته فسمّوا أنفسهم ملوكا على أقاليمهم . إن الأجهزة الإدارية التي كانت عبئا ثقيلا على الفقراء بجانب الإستبداد الملكي كانت الهدف الرئيسي . بعد تلك الثورة أصبح لكل المصريين حق (الموت الأوزيرسي) الذي يمنح حظوة البقاء في المستقبل والذي كان مدخرا في السابق للفرعون وحده الذي له أن يكون مع (كا) الروح التي في السماء .
هناك حقيقتين يجب ملاحظتهما . لقد كان السخط قويا بما يكفي لتمزيق المجتمع المصري بشكل تام في كامل البلاد ، غير أن ذلك السخط كان يعوزه التوجيه والتنسيق وقوة التحركات الحديثة . لقد كان ذلك يقتضي مستوى من التربية الشعبية التي لا تتوافق مع إمكانيات وأشكال التربية في ذلك الوقت . علاوة على ذلك فإن إتساع البلاد تغلب على المتمردين . لقد توحدت البلاد مسبقا وأستطاعت الملكية أن تجد لها ملاذا مؤقتا في الأقاليم المجاورة ولو في مظهر الإقطاعية في مرحلتها الأولى . إن عزل (مفيس) يظهر أن الملكية كان يمكن أن تهزم بشكل حاسم وتبعد إذا ما تقلصت المملكة المصرية إلى مدينة واحدة ، مقارنة بالمدينة الدولة في اليونان . على إمتداد التاريخ وحتى التقدم الفني والتعليمي الذي مهّد الطريق لتنسيق أفضل للنشاط المتعلق بالعصيان (1789) فإن الشعوب كانت تقهر دائما بحجم الممالك التي رغبت أنظمتها الإجتماعية في التحول . إن دراسة الأسلوب الآسيوي في الإنتاج يقود إلى تحليل العوامل التاريخية – الإقتصادية التي أفضت إلى التوحيد المبكر في مصر ومعارضته في اليونان .
إن المقارنة بين المجتمعين تكشف عن عامل متبقي مرتبط بمرحلة سابقة من الحياة البدوية بين الأغاريق . إنه من المعقول الإفتراض بأن كل الشعوب بما فيهم المصريين قد عايشوا فترة من البداوة قبل أن يستقروا ، غير أنه لا يوجد أي مكان أخر تعمّقت فيه الحياة البدوية مثل تلك التي سادت بين الهنود – الآريين في السهول اليورو آسيوية . لقد ظلت حضارتهم مميزة بذلك النمط من الحياة حتى أيامنا ، فيما بقيت الكثير من ممارسات الدول المتحضرة اليوم في أوروبا مرتبطة عرقيا بتلك الحقبة ، مثلا حرق الموتى ، العائلة الأبوية وهكذا . حينما نتأمل إخفاق ثورة في العصور السالفة فإنه من الواضح أنّ الطبيعة غير الثورية للتركيبة الإجتماعية كانت أقل أهمية من عامل الحجم . في الواقع فإنه أيّا كانت (مناقب) التنظيم الإجتماعي المصري فإن هذا التنظيم قد أفرز مثل نظيره الإغريقي إمتهانات لا تحتمل وقلاقل قاسية مثل تلك التي طبعت الثورات اليونانية – اللاتينية . إنّ هذه الثورات في مصر كان يمكن الإحتفاء بها بالتأكيد إذا كانت الأبعاد الإقليمية هي بالمثل . إن حجم المملكة أجهض الثورات مقدما . خلال فترة الفوضى فإن معظم المدن المصرية تقريبا كان لها حكومات مستقلة ، غير أنها تلاشت مع إنبعاث الملكية .
(ب) الدورة الثانية : المملكة الوسطى : تشمل الدورة الثانية من التاريخ المصري الفترة الممتدة من الاسرة الحاكمة السادسة إلى الأسرة الثانية عشرة . في فترة الأسرة الحاكمة السادسة جرى عزل العاصمة (مفيس) بواسطة الثوار . بعد تلك الأسرة لاذت الملكية بشكل تدريجي بموطنها الجنوبي الأقل قابلية للوصول . لقد حدث ذلك بشكل متكرر في الأحداث التاريخية المصرية . متى ما كانت الدولة مهددة بواسطة غزو البيض من آسيا أو أوروبا عبر المتوسط ومتى ما أوقعت هذه الغزوات الفوضى في الحياة القومية فإن السلطة السياسية كانت تهاجر إلى الجنوب حيث موطن الأسلاف . بمعنى أخر فإن النجاة ، إعادة غلبة السلطة السياسية ، إعادة التوحيد ، الإحياء القومي كانت تتحقق من خلال مجهودات الأسر الحاكمة الشرعية السوداء المنتمية إلى الجنوب . في الدلتا تمركز كل الرقيق الأبيض الموسّم الذي هو ثمار إنتصارات (ميرنبتاح) و (رمسيس الثاني) على القبائل الهندو – أوربية .
لقد لعبت مدينة (هيراكلوبوليس) في مصر الوسطى دور العاصمة مؤقتا أثناء عهد الأسرتين التاسعة والعاشرة . لقد كان حكميهما متماثلين على إمتداد تلك الفترة من الفوضى . في مصر العليا لم تخفق مدينة (طيبه) أبدا في لعب دور القيّم على التقاليد والشرعية فقد أسس أمرائها الأسرة الحاكمة الحادية عشرة والتي سرعان ما تولت عملية إعادة البناء القومي . مع ذلك فإن الأمر إحتاج إلى ما لا يقل عن قرنين من الكفاح والجهد لإعادة توحيد مصر في عام 2065 قبل الميلاد . لقد كان هذا هو التوحيد الثاني الذي قام به الملوك الجنوبيين . من جانبها أحيت الأسرة الحاكمة الحادية عشرة المركزية الإدارية للأسرة الحاكمة الثالثة بكل مظاهرها اللازمة . لإضعاف السادة الكبار إعتمد العرش على القليل من الأشخاص لا سيما التجار . وفقا لـ (بيريني) فإن المركزية الإدارية أحدثت إلغاء لعدم قابلية تحويل ملكية الأراضي التي ربما تشارك فيها ذرية المالك . لقد مزّق ذلك من ترابط العائلة مرة ثانية . من جانبها فقد رسّخت الأسرة الحاكمة الثانية عشرة تماما إنتصار المركزية الإدارية .
في الفترة من (1730 – 1580) تعرضت مصر فجأة للغزو من جانب قبائل آسيوية جديدة هي الهكسوس . لقد أدخلوا المركبات الحربية والجياد إلى البلاد . في الواقع إنهم إحتلوا فقط الإقليم الشرقي من الدلتا مع (أفاريس) التي تبنوها عاصمة لهم . لقد كانت همجيتهم لا توصف . أما ملوك (طيبه) فقد إستمروا في حكم مصر العليا حيث وجدت الملكية مرة أخرى ملاذا لها . خلال حكم (أبوفيس) الحاكم الهكسوسي إندلعت العداوات بين الغزاة الساميين – الآريين والأسرة السوداء الحاكمة لمصر العليا والتي جسّدت تصميم الشعب المصري على تحرير الأمة . بإحداثها تعبئة في البلاد تحت سلطتها إستطاعت هذه الأسرة طرد الهكسوس عام 1580 قبل الميلاد وإعادة توحيد مصر للمرة الثالثة وتأسيس الأسرة الحاكمة الثامنة العاشرة المجيدة تحت حكم الملكة (حتشبسوت) التي جسّدت الشرعية الملكية . عند وفاة الملكة (حتشبسوت) بدأ الحكم العظيم للأسرة الحاكمة الثامنة عشرة تحت الملك (تحتمس الثالث) ، ملك جنوبي مرموق أخر ، كانت أمه نوبية سودانية . لقد بسط سلطته على كل دول غربي آسيا وجزر شرقي المتوسط ، جاعلا أهلها تابعين مرغمين على دفع جزية سنوية . لقد كانت تلك هي الحالة مع كل من (ميتاني – دولة هندو أوربية في الفرات الأعلى) ، بابلونيا ، صقلية ، الدولة الحيثية ، قبرص ، كريت ، الخ .. ، بينما أدمجت سوريا وفلسطين في المملكة المصرية . وفقا لـ (هيرودتس) فإن الحامية العسكرية التي يفترض أن تكون كولخيسية في ذلك الوقت ، تمركزت على شواطيء البحر الأسود ، غير أن ذلك يبدو موضع شك .
على أي حال فإن مصر كانت يومها القوة الأولى في العالم فنيا ، عسكريا وإمبراطوريا . كان الحكام الأجانب الذين كانوا في موقع التابعين لمصر يتنافسون مع بعضهم في إظهار الخنوع لملوك مصر ، كل يحاول إبداء صيغته الأكثر تذللا في مخاطبته للفرعون فمثلا كتب تابع سوري لـ (أمينوفيس الرابع) : (( أنا مسند قدميك ، ألعق الغبار من حذائك فأنت شمسي )) . بعد الأسرة الحاكمة الثامنة عشرة إكتسب المصريون عادة الإحتفاظ بابناء حكام آسيا والبحر المتوسط التابعين كرهائن وتدريبهم في بلاط الفرعون على أمل أن يحكموا بلادهم لاحقا كتابعين خيرين . لقد كانت هذه واحدة من الأسباب العديدة للتأثير المصري العميق والواسع على غربي آسيا والمتوسط . عملت الأسرة الحاكمة الثامنة عشرة شأنها في ذلك شأن الأسرة الثالثة على تعزيز المركزية الإدارية وأوقفت مرة أخرى الوظائف الإدارية من أن تكون وراثية . وفقا لـ (بيريني) فإنه حتى في المجال الكهنوتي فإن الملكية أصبحت مرة أخرى قابلة للتحويل وأفتكت العائلة مرة أخرى من حق الإبن الأكبر ، سلطة الزوج والسلطة الأبوية . [/rtl]
salih sam
لـــواء
الـبلد : المهنة : College studentالمزاج : اللهم سلم السودان و اهل السودان التسجيل : 09/05/2011عدد المساهمات : 7924معدل النشاط : 6296التقييم : 271الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 18:08
[rtl]15 و الاخيرة .....[/rtl] [rtl] (ج) الدورة الثالثة : التطور الأخير : - للمرة الثالثة تغرق مصر في الفوضى الإقطاعية والتي إستمرت حوالي ثلاثة قرون من 1090 إلى 720 قبل الميلاد . إن هذه الفوضى لم تنتهي إلا بتدخل نوبي سوداني أجج إحياء الوعي القومي . إستطاع الفراعنة الذين شكلوا الأسرة الحاكمة الخامسة والعشرون ومن ورائهم كامل الشعب المصري من أن يحثوا على النهضة القومية . لقد كان كامل تاريخ تلك الأسرة الحاكمة مجسدا للجهد السامي نحو تشكيل جبهة موحدة ضد الغازي الأجنبي . في ظل الأسرتين الثانية والثالة والعشرين بلغت الإقطاعية ذروتها . لقد نصب الليبيين والأخيين أنفسهم كرؤوساء وأمراء في مناطقهم فقد أغتصبت السلطة السياسية وتشظت بواسطة بيض الدلتا .
حينما حاول المغتصب الليبي (أوسوركون) أرغام إبنه في (طيبه) على أن يكون كاهن (آمون) فر رجال الدين في طيبه إلى السودان النوبي . عندها تحرك ملك السودان (بعانخي) فورا لإعادة الوحدة المصرية وذلك بقمع كل أشكال التمرد في مصر السفلى واحدة تلو الأخرى . لقد شكل هؤلاء الغرباء تحالفا شماليا جديدا تحت إمرة (تيفناخت) . لذا فقد إنقسمت البلاد إلى معسكرين : معسكر في الشمال من المتمردين البيض الذين هم من الرقيق السابقين ومعسكر الجنوب الذي تمثله الأمة المصرية الحقيقية ويقف وراءه الملك السوداني ، ثم بدأت المعركة في (هيراكلبوليس) وهزم (تيفناخت) وأستسلم (نمرود) حاكم مدينة (هيرموبوليس) . لقد قاد حصار تلك المدينة (بعانخي) بنفسه وذلك من خلال حفر الخنادق وبناء الأبراج الخشبية . كعلامة لإستسلامه أرسل (نمرود) إلى (بعانخي) إكليلا وجزية من الذهب ، ثم جاء الدور على (مفيس) التي حاول تيفناخت عبثا الدفاع عنها بجيش يصل تعداده إلى 8.000 جندي ، غير أن (بعانخي) هاجمه من جهة النهر وأخترق المدينة وعزلها . بعدها دخل (هليوبوليس) وجرى تتويجه بمهابه فرعونا على مصر العليا والسفلى .
في (أثريبيس) قبل بعانخي إستسلام أخر المتمردين في الشمال ومن بينهم (أوسوركون الرابع) و (وتيفناخت) نفسه . إن الوصف الثري للحقبة الإستثنائية للملك السوداني تبدو غير مناسبة هنا . إن علينا أن ننتبه إلى وحدة الأمة المصرية السوداء التي تحققت تحت إمرته ضد خدع الليبيين الإقطاعية . مرة أخرى تجد مصر خلاصها عند الجنوب موطن الأسلاف . في عام 706 قبل الميلاد خلف (شاباكا) أخيه (بعانخي) في حكم (نبته) و مصر ، أما في الدلتا فقد خلف (بوخوريس) أياه (تيفناخت) على قيادة متمردي الشمال . في ذلك الوقت عمدت الأسرة السودانية الحاكمة إلى القيام بحركة فاعلة للإحياء الثقافي والإنبعاث القومي وفيها شرع (شاباكا) في إسترداد الآثار المصرية العظيمة وأصبحت (طيبه) تحكم بواسطة حاكم سوداني وهو في ذات الوقت الرسول الرابع لـ (آمون). كذلك عمل الفرعون السوداني الذي هو ملك (نبته) كاهنا أولا لـ (آمون) فأصبح ملكا وكاهنا معا . في عهد الأسرة الخامسة والعشرون جرى أحياء الملكية الثيوقراطية وأمتدت لتشمل كامل البلاد . لقد حوّل (شاباكا) عاصمته الإدارية إلى (مفيس) ثم إلى (تانيس) مما يشير إلى أنه أراد أن يضع حدا لأي تحركات نحو الإستقلال من قبل سادة الإقطاع في الدلتا . بعد إعدام (بوخوريس) خلفه إبنه (نيخو) لكن كتابع لـ (شاباكا) . بعد وفاة (شاباكا) عام 701 خلفه إبن أخيه (شابتاكا)
عند إندلاع الحرب مع الأشوريين على أرض فلسطين غزا الجيش المصري آسيا بقيادة (تهارقا) الإبن الأصغر لـ (بعانخي) وسار نحو قوات (سنحاريب) . في البداية جرى صد المصريين . في ذاك الوقت خدع (شابتاكا) بواسطة تابع أجنبي في الدلتا رفض مساعدته ضد العدو الأجنبي ، إلا أنه بعد ذلك تدافع المتطوعون من مدن الدلتا ودحروا الآشوريين وعقدت معاهدة صلح إستمرت (25) عاما وبعد إغتيال (شابتاكا) إعتلى (تهارقا) العرش في عام 689 قبل الميلاد وأعلن نفسه إبنا لملكة السودان وشيّد معبدا على شرفها وأستمر في نفس سياسة المركزية بفرض سلطة ملكية أكثر تشددا على عشرين من سادة الإقطاع في الدلتا وفي سبيل التغلب على مقاومة أمراء مصر السفلى لم يتردد في نفي زوجاتهم إلى بلاد النوبة في عام 680 قبل الميلاد . لقد جرى تقوية النهضة الإقتصادية والثقافية وعلى الخصوص الهندسية بتشييد آثارا مثل أعمدة تهارقا في الكرنك ، تمثال (منتومحت) و (أمينارديس) . لقد تدخل (تهارقا) في آسيا في محاولة لإسترداد مكانة مصر العالمية .
مرة أخرى يتعرض (تهارقا) للخيانة من قبل الزعماء الأجانب في الدلتا وهذه المرة من (نيخو) بن (بوخوريس) . حالما دخلت القوات الآشورية مصر أصبح (نيخو) تابعا للأشوريين الذين عهدوا إليه بإمارة (أثريبيس) . مع خيانة سادة الإقطاع الليبيين في الدلتا أصبحت مصر السفلى مقاطعة آشورية . عندها لجأ (تهارقا) إلى طيبه حيث وجد الدعم الكامل من رجال الدين الذين رفضوا منح الشرعية لسلطة الآشوريين ، فيما ظل حاكم طيبه وفيا لـ (تهارقا) الذي عاود الهجوم مرة أخرى في عام 669 وأسترد (مفيس) وبقي فيها عامين ليتعرض مرة أخرى للخيانة من سادة الإقطاع في الدلتا فلجأ إلى (نبته) حيث مكث عامين قبل أن يتوفى . ورث (تانوتامون) عرش أبيه تهارقا في نبته وأعلن وريثا شرعيا للفراعنة من قبل رجال الدين والقرين الروحي لآمون ، ثم جنّد جيشا في السودان وهاجم مفيس وشن حربا ضد التحالف الجديد في الشمال . لقد دحر هذا التحالف وقتل (نيخو) بن سيز في المعركة وأستسلم كل قادة الشمال مثلما أذعنوا من قبل للفاتحين الآشوريين . لقد برهن (تانوتامون) على رحابة صدره حينما أعادهم إلى وظائفهم السابقة . في عام 551 هاجم (آشوربانيبال) مصر ونهب مدينة (طيبه) فلجأ (تانوتامون) إلى نبته. لقد أثار سقوط المدينة المبجلة في كل العصور إنفعالا عميقا في عالم ذلك الوقت ، واضعا نهاية للأسرة الخامسة والعشرين السودانية النوبية وتداعيا للتفوق السياسي الأسود في التاريخ القديم . لقد سقطت مصر تدريجيا تحت الهيمنة الأجنبية من دون أن تعرف شكلا جمهوريا للدولة أو فلسفة دنيوية على إمتداد ثلاثة آلاف سنة من التطور .
الفصل الحادي عشر إسهام إثيوبيا – النوبة ومصر في الحضارة
وفقا لشهادة القدماء بشكل إجماعي فإن الإثيوبيين أولا ثم المصريين ثانيا صنعوا كل عناصر الحضارة وأرتقوا بها إلى مرحلة إستثنائية من التطور ، بينما كانت الشعوب الأخرى خاصة اليورو أسيوية لا تزال غارقة في همجيتها. إن هذا التفسير يجب أن ينشد على ضوء الظروف المادية التي وضعتهم فيها الجغرافيا في أول العصور . لكي يتكيف الإنسان مع محيطه فقد إقتضت تلك الظروف إبتداع العلوم متكاملا مع الإبداع في الفنون والديانة . إنه ليس هناك حاجة للتأكيد على فضل الحضارة المصرية على العالم لا سيما الحضارة الإغريقية . لقد إقتبس الإغاريق ما أبتدعه المصريون وطوروه أحيانا بشكل جزئي . نظرا لميولهم المادية فإن الأغاريق جرّدوا تلك الإختراعات من لبوسها الديني والمثالي الذي غلفه به المصريون . إن الحياة الوعرة في السهول اليوروآسيوية ضاعفت بشكل واضح من إبراز الغريزة المادية للشعوب التي كانت تعيش هناك كما أنها صاغت القيم الأخلاقية المتعارضة تماما مع القيم الأخلاقية المصرية المستمدة من الحياة الجماعية ، المستقرة ، المسالمة ، السهلة نسبيا ، منذ أن نظمتها القوانين الإجتماعية .
بنفس القدر الذي كانت ترهب فيه المصريين السرقات ، البداوة والحروب فإن هذه الممارسات كانت تثمّن عاليا من الناحية الأخلاقية في السهول اليوروآسيوية . بالنسبة إليهم فإن المحارب الذي يقتل في ساحة المعركة هو وحده الذي يستطيع أن يدخل الفردوس الجرماني . أما بالنسبة للمصريين فلا يحظى بالسعادة إلا المتوفى الذي يستطيع أن يثبت أمام ( محكمة أوزيريس) أنه كان محسنا للفقراء وأنه لم يرتكب خطيئة قط . لقد كان ذلك نقيض روح السلب والغزو التي ميّزت عموما شعوب الشمال . على العكس من ذلك فإن الحياة في وادي النيل كانت سهلة حيث جنة عدن الحقيقية الواقعة بين صحراوين ، مما جعل المصريون يعتقدون أنّ السماء تغدق عليهم بنعم الطبيعة ، لذا فقد عبدوها أخيرا في شكل كائن قدير ، فيما يمكن القول بأن ماديتهم المبكرة التي إنتقلت إلى السماء قد تحولت إلى مادية ميتافيزيقية .
في المقابل فإن آفاق الإغريق لم تكن لتتجاوز أبدا الإنسان المادي المرئي قاهر الطبيعة المعادية الذي ينجذب إليه كل شيء على الأرض ، بينما كان الهدف الأسمى عنده هو أن يعيد نسخة شبيه له تماما وفي تناقض ظاهري كان يرى بأنه الوحيد المتواجد في السماء بأخطائه وضعفه تحت حماية الآلهة التي تتميز عن البشر العاديين بالقوة الجسدية . لذا فحينما إقتبس الإغريقي الإله المصري ، الإله الحقيقي بالمعنى الكامل للكلمة ، بكل الكمال الأخلاقي المستمد من الحياة المستقرة ، إستطاع أن يدرك أن الربوبية تكون فقط بالتنزل إلى مستوى الإنسان . عليه فإن البانثيون الذي تبناه الإغريق كان كيانا بشريا أخر . إن هذا التجسيد في هذه الحالة على وجه الخصوص لم يكن سوى مادية صارخة تميزت بها العقلية الإغريقية . حالما تم إقتباس القيم المصرية من قبل الأغاريق فإن عبقريتهم المنبعثة أساسا من السهول اليورو آسيوية ومن خمولهم الديني عملتا على تفضيلهم العلوم الدنيوية التي جرى تدريسها علنا بواسطة الفلاسفة بحيث لم تعد حكرا على مجموعة الكهنة الذين كانوا يكتمونها على العامة . لقد جرى التدريس العلمي والفلسفي بواسطة العلمانيين المميزين فقط عن عامة الشعب بمستواهم الفكري أو مكانتهم الإجتماعية . في مؤلفه (إيزيس وأوزيريس) يروي (بلوتارخ) أنه ووفقا لشهادة كل العلماء والفلاسفة الأغاريق الذين علّمهم المصريين فإن المصريين كانوا حذرين في أن يجعلوا معرفتهم دنيوية. لذا فقد واجه كل من سولون ، طاليس ، إفلاطون ، لوكورجوس ، فيثاغورس صعوبة في قبولهم طلبة لدى المصريين .
مثلما لاحظ (أميلينو) فإنه من الغريب أن لا نضع مزيدا من التاكيد على الإسهام المصري في الحضارة : (( لقد تيقنت عندها وبشكل واضح أن أكثر المذاهب الإغريقية شهرة لاسيما مذاهب (بلاتو) و (أرسطو) نشأت في مصر ، كما تحققت من أن العبقرية السامقة للأغاريق كانت قادرة على تقديم الأفكار المصرية بشكل لا يضاهي خاصة عند (بلاتو) ، غير أنني أعتقد أن ما أحببناه في الأغريق يجب أن لا يجعلنا نستخف به أو نزدريه عند المصريين فمثلا حين يتعاون اليوم مؤلفان في عمل فإن الفضل ينسب إليهما بالتساوي ، غير انني أخفقت في أن أفهم سبب إستئثار اليونان القديمة بكل الأفكار التي إقتبستها من مصر )) . يشير (أميلينو) كذلك إلى أنه إذا أصبحت أفكار (بلاتو) مبهمة فذلك لأننا فشلنا في أن نضعها في سياق منشأها المصري . إننا نعلم أن فيثاغورس ، طاليس ، سولون ، أرخميدس وغيرهم نالوا تعليمهم في مصر . في الواقع يمكننا القول بأنه خلال العصر الهيليني فإن الأسكندرية كانت المركز الفكري للعالم التي إجتمع فيها كل العلماء الذين نتحدث عنهم اليوم .
في مناسبات عديدة جرى الإشارة إلى أن الأغاريق إقتبسوا آلهتهم من مصر وهنا الدليل (( إن كل أسماء الآلهة تقريبا جاءت إلى اليونان من مصر . لقد أثبتت إستقساراتي بأن جميعها مشتق من مصدر أجنبي ورأيي أن مصر كان لها النصيب الأكبر في ذلك )) -هيرودتس . بما أن الأصل المصري للحضارة وإقتباس الأغاريق منها بشكل واسع هو أمر واضح تاريخيا ، إلا أننا لا يسعنا إلا أن نتعجب مع (أميلينو) من أن معظم الناس يشددون على الدور الذي لعبته اليونان وتجاهل الدور الذي لعبته مصر . إن السبب لهذا الموقف يمكن أن نكتشفه بالرجوع إلى أصل القضية فمصر بلد زنجي بحضارة صنعها السود وأي أطروحة تميل إلى أثبات العكس سوف لن يكون لها مستقبل . لذا فمن الأسلم تجريد مصر من كل إبداعاتها التي صنعتها لصالح جنس أبيض هم الأغريق .
بالرغم من رأي (أندريه سيفريد) فإن الإنسان الأسود كان قادرا بشكل واضح على إبتداع التقنية . لقد كان هو أول من إبتدعها بينما كانت كل السلالات البيضاء غارقة في همجيتها . حينما نقول بأن أسلاف السود الذين يعيشون اليوم بشكل رئيسي في أفريقيا السوداء إبتدعوا الرياضيات ، الفلك ، التقويم ، العلوم ، الكتابة ، الفنون ، الزراعة ، التنظيم الإجتماعي ، الطب ، الهندسة وأنهم أول من شيد بناء مؤلفا من (6) مليون من الحجارة (الهرم الأكبر) وأنهم بنوا معبد الكرنك المهيب وأنهم نحتوا أولى التماثيل الهائلة ، فإننا حينما نقول ذلك فإنما نعبر فقط عن الحقيقة المجردة التي لا يستطيع أحد اليوم دحضها بحجج حقيقية . بناء على ذلك فإن على الإنسان الاسود أن يكون قادرا على إستمرارية تاريخه القومي الذي كان في الماضي وأن يستمد منه الميزة المعنوية المطلوبة لإسترداد مكانته في العالم الحديث من دون الوقوع في تطرفات نازية ، ذلك أن الحضارة التي ينتمي إليها كان يمكن أن يصنعها أي جنس أخر إذا ما توافرت له بيئة مواتية وفريدة . **
(( الخاتمة))
إن التركيز الذي أولته دراستنا التي قرأتها للتو قد أحاط بالموضوع بلاشك . إنها دراسة متقدمة أعدت على أساس الوثائق المتاحة لنا في الوقت الحاضر ، كما إنها مؤشر على الإتجاه الذي يجب أن تستمر فيه أجيال المستقبل من باحثي أفريقيا السوداء ليعملوا بصمت من أجل النجاح الذي ينتظرهم عند نهاية تلك المجهودات . إن إصداراتنا المختلفة هي مخططات تمهيدية ذات محطات متتالية في محاولة علمية للإقتراب أكثر وأكثر من الحفائق التي جرى تحليلها . بناء عليه يصبح من المفهوم سبب عدم إعادتنا كتابة العمل حال نشره . إننا نفضل أن نمر إلى المرحلة التالية بإصدارة جديدة ، بينما لم نفشل في الرد على الإنتقادات التي وجهت إلينا دون إخفاء المصاعب التي أثارها خصومنا .
لقد أحدث البحث فقزة هائلة إلى الأمام في السنوات الحاضرة مع ظهور جيل العلماء الشباب في أفريقيا الناطقة بالفرنسية الذين تعمقوا في القضايا الأكثر تنوعا ذات الصلة بالعلوم الإنسانية . لقد أراد الأفارقة أن يظهروا أن هذا الجهد الهائل من الإحياء الثقافي سوف لن ينطلق أبدا من مستوى علمي ليهبط إلى مستوى عاطفي . إن هذا هو أحد الأسباب التي جعلتني أقترح ثلاثة شروط مسبقة للإعداد للكتاب الثاني (عن العراقة الأفريقية) وذلك في جلسات اللجنة العلمية الدولية المتعلقة بنشر التاريخ العام لأفريقيا والتي عقدت في باريس في أبريل – مايو 1971 تحت رعاية اليونسكو والتي جرى فيها قبول المقترحات الثلاثة :
(1) مؤتمرعالمي يجتمع فيه علماء الآثار المصرية والمختصين بالثقافات الأفريقية في مصر لأول مرة وذلك لمقارنة أوجه الرأي المتعلقة بالهوية الأنثربولوجية لقدماء المصريين . (2) مؤتمر عالمي لفك شفرة الكتابة المروية ، الكتابة القديمة لبلاد النوبة ( جرى تحديد إجتماعيين في القاهرة نوفمبر 1973 ) . (3) مسح جوي لأفريقيا لتعقب شبكة الطرق القديمة .
إذا إستطعنا من خلال المعرفة العلمية إزالة كل أشكال الإحباط ( الثقافي وغيره ) التي كانت ضحيتها الشعوب فإن تقارب الجنس البشري سوف يوجد إنسانية حقيقية ستلاقي التشجيع . هل يمكن أن يساهم هذا الكتاب في ذلك الهدف السامي ؟
(شيخ أنتا ديوب)
[/rtl]
salih sam
لـــواء
الـبلد : المهنة : College studentالمزاج : اللهم سلم السودان و اهل السودان التسجيل : 09/05/2011عدد المساهمات : 7924معدل النشاط : 6296التقييم : 271الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: حول وضع النوبة في المملكة المصرية القديمة السبت 31 مايو 2014 - 18:16
كابو : لا تظن انني اتعصب منك تحديدا و الله هذا اليوم و معه اليومين الماضيين هم من الايام المشهوده في حياتي !!
بسببك قرأنا التاريخ بصورة متمعنه و فعلا التاريخ محرف و مبدل و مغير
لكن تظل الحقيقه التي كنت اجهل جزء كبير جدا منها قبل اثارتك لنقطه النقاش هذه ، و التاريخ يجب ان يعاد كتابته
نحن اصل حضارة وادي النيل ، نحن ورثة من بنوا الاهرامات في مصر و السودان (حسب التقسيم الجغرافي اليوم) الحضاره الفرعونيه اصلها افريقي زنجي و نفتخر انها انحدرت منا
البعض كتب كلام لا يوصف الا باستخفاف بتاريخنا لهذا تعصبت
نعم نحن كنا حضارة واحدة لا تتجزأ و انطلقت هذه الحضارة منا نحن احفاد الزنوج .
الاخ مي 17 .. رجاء لا تحذف اي مشاركة مهما بلغت سخافتها ، من يدري قد تساهم في اعادة كتابة تاريخ اجدادنا الذين اسسوا اعظم حضارة مرت علي البشرية