في الحلقة السابقة تحدثنا عن مسرح العمليات و نوعية الدفاع الجوي العراقي. و اليوم سوف نتوسع في الخطة الهجومية اﻷمريكية و تفاصيل غارات الساعة اﻷولى:
لا يمكن الحديث عن خطة الضربة الجوية و فلسفتها دون الحديث عن العقيد جون واردن الثالث Col. John Warden III. فقد تم تكليف هذا الرجل في شهر 8 \ 1990 (قبل الحرب ب 5 اشهر) باعداد خطة مبدئية للعملية الجوية.
هذا الاختيار لو تم معرفته وقتها من قبل العراقيين لكان من الممكن ان يخمنوا شكل العملية الجوية! فالعقيد واردن من انصار مدرسة القصف الاستراتيجي و التركيز على مفاصل الدولة لتركيعها قبل التعامل مع الجيش، بل انه الف كتابا في المجال. و هذه المدرسة تعرضت لسنوات من الفشل في الحرب العالمية الثانية و فيتنام. و كان السبب في ذلك تقني: عدم وجود فنابل موجهة بشكل كاف، و سبب ثقافي: فقد اعتاد ضباط الجيوش البرية و المارينز على سماع القوات الجوية وهي تسرف في الوعود. لكن الواقع انه لا القصف الجوي المركز على المانيا (سنتين لم تنجح ايقاف الصناعة اﻷلمانية او حتى ابطائها) و اليابان و الفيتنام قد اوفى بالوعد.
بينما تغير الشرط التكنولوجي بتوفر القاذفات الشبحية و قذائف الليزر التي تتبع مبدأ (قذيفة = تدمير هدف) بقي الشك العميق من الجيش و البحرية من الوعود التي قدمتها القوات الجوية.
قام واردن برسم خمس دوائر متداخلة امام فريق عمله:
الدائرة المركزية: القيادة العراقية
الدائرة الثانية: الصناعات النفطية و الكهرباء
الدائرة الثالثة: البنية التحتية للدولة العراقية
الدائرة الرابعة: الشعب العراقي
الدائرة الخامسة: الجيش. و كانت الفكرة انه في دولة مركزية مثل العراق. يمكن ان تحسم الحرب بضرب الدوائر المركزية (الغير مهيئة للتعامل مع عمل جوي) بدل التركيز على الجيش. و تم وضع خارطة عملاقة لبغداد و بجانبها خارطة كبيرة لواشنطن و تم اختيار اهداف حساسة في العاصمة العراقية و ما يماثلها في واشنطن حتى يسهل بيع الخطة للجيش و المارينز.
اعجبت الخطة شوارتزكوف و تم طلب توسيعها و تم دعوة العقيد و اردن للرياض للاجتماع بقادة القوات على اﻷرض. عرض واردن الخطة التي تعتمد على 670 طائرة و بواقع 1000 غارة كل يوم لمدة 6 ايام لضرب مراكز ثقل الدولة العراقية. و كان هناك اعتراف بأن قدرة العراق الصاروخية و اسلحة الدمار الشامل ستكون مشكلة.
لم تعجب الخطة القادة اﻷمريكيين في الرياض، و توالت التعليقات عن كونها نظرية و تعد بالكثير دون سند عملي. و كان السؤال القاتل من لواء طيار مسؤول العمليات الجوي عن وجود فرق عراقية مدرعة في الكويت، و ماذا سوف تفعل لو اختار صدام الهجوم؟ رد العقيد واردن: "سيدي، لا اظن انهم سوف يهاجمون، انت تركز كثيرا على الدفاع". صدم الحضور من هذه السهوة. فلا يجوز ان يتكلم العقيد مع اللواء بهذا الأسلوب. و اعتذر العقيد و لكن الضرر كان قد وقع. فقد سأل اللواء اعضاء فريق العمل المساند لواردن البقاء في الرياض واحدا واحدا و لم يدع العقيد واردن للبقاء في السعودية لاستكمال خطته!
هذه المصيبة كانت كفيلة يتدمير فلسفة الخطة، لكن ابقاء فريق العمل المخلص لواردن انقذها من هذا. و تم توسيع اﻷهداف الاستراتيجية من 48 الى 386 و ثم الى 700. و تم مضاعفة عدد الطائرات.
المعلومات الاستخبارية تراوحت في دقتها بين ممتاز جدا (مثل المعلومات عن الدفاع الجوي) الى سيء جدا (المعلومات عن البرنامج النووي العراقي و صواريخ سكود). و تم اضافة اهداف تشمل الدفاع الجوي العراقي بناء على اصرار المارينز و تم استهداف فرقة توكلنا على الله بناء على طلب من شوارتزكوف لتكون نذيرا للحرس الجمهوري بحجم الجحيم القادم. و اكد باول على تدمير كل قطعات الجيش العراقي الثقيلة المتواجدة على مسرح عمليات الكويت.
عمليات اليوم اﻷول يمكن تقسيمها لخمس مجموعات:
1- ضربة بصواريخ توماهوك من بحر العرب. و بعض هذه الصواريخ تسمى Kit 2 و التي تنفجر في الجو ملقية الياف موصلة للكهرباء تقوم بتعطيل الشبكة الكهربائية في العراق بدون تدمير المنشأت نفسها. كان استخدام هذا السلاح السري مثال جدل بسبب الخوف من اكتشاف التكنولوجيا البسيطة من الروس مما يعرض الشبكة الكهربائية اﻷمريكي للخطر في حال وقوع حرب معهم! تم استهداف محطة كهرباء بيجي و الدورة و التاجي و سلمان باك (ظنها اﻷمريكان منشأة بيولوجية) و محطات اخرى ذلك اليوم و غرق العراق في الظلام. بعض الصواريخ استهدفت القصور الرئاسية و مقار حزب البعث (المجموع 116 صاروخ في اول 24 ساعة)
2- ضربة بالطائرات المروحية على رادارات الانذار المبكر غرب العراق. نجحت اﻷباتشي في تدمير كل اهدافها لكن العراقيين اوصلوا جملة واحدة للقيادة: "نحن نتعرض للهجوم". هذه الرادارات كانت توفر انذارا للعراقيين باقتراب اي طائرة مغيرة من الغرب و الجنوب قبل وصولها ب 20 دقيقة.
3- غارة لرصد و تدمير الصواريخ العراقية غرب بغداد باستخدام دزينتين من طائرات F-15E و طائرات التورنيدو. مع طائرات تشويش على الرادار EF-111
4- غارة على بغداد و ضواحيها بطائرات الشبح (تنطلق من قاعدة خميس مشيط على البحر اﻷحمر). لضرب مركز الدفاع الجوي في النقيب و مرافق اخرى مثل مركز الاتصالات الدولي و مركز اتصالات الكرخ (10 قاذفات شبحية) و تم ايضا استهداف مركز الدفاع الجوي في التاجي. القنابل الليزرية المستخدمة تحتاج 10 ثوان من التوجيه من الطيار. و لكن كان هذا صعبا في بعض اﻷحيان بسبب المقاومة الشديدة من الدفاع الجوي العراقي الذي تم تنبيهه بالمكالمة اليتيمة من مركز الانذار المبكر.
ذكرنا حتى اﻷن 4 مكونات من ضربة الافتتاح. و بعد انتهاء الساعة اﻷولى كانت تبدو اﻷمور مشجعة للتحالف، فقد تم ضرب كل المواقع المطلوبة في الساعة اﻷولى (دون خسائر). كان هناك شكوك في دقة اصابة بعض طائرات الشبح و فيما كان تعطل الكهرباء في العراق ناتجا عن صواريخ التوماهوك ام ان العراقيين قرروا قطع الكهرباء بأنفسهم. و في نفس الوقت لا يزال العراق بوضع جيد و الخسائر طفيفة. فلم تنجح الضربة في اصابة اي من القيادات العراقية. و كل الاعطال و الاضرار (باستثناء رادارات الانذار المبكر) من الممكن تجاوزها. اﻷهم من ذلك ان شبكة الدفاع الجوي بقيت متماسكة و اظهرت بعضا من قدراتها في التحرش بطائرات الشبح لدرجة عدم القدرة على توجيه القذائف نحو الهدف. فوق ذلك لم يكن مطلوبا و لا متوقعا من الدفاع الجوي العراقي التعامل مع الطائرات الشبحية او صواريخ التوماهوك. بل المفروض ان يجلس و ينتظرالفريسة اﻷهم: طائرات العدو و قاذفاته التقليدية التي كانت في الطريق نحو المواجهة مع عودة طائرات الساعة اﻷولى. فكيف تم تدمير منظومة الدفاع الجوي العراقي خلال الساعات القادمة بما افقد العراق السيطرة الجوية بأبخس اﻷثمان؟ يتبع في الحلقة الثالثة.
المصدر: R. Atkinson: Crusade - the untold story of the persian gulf war