اللعب الإسرائيلي في المعدة السوريةبادئ ذي بدئ؛ العدوان العسكري الإسرائيلي على أهداف في العاصمة السورية
دمشق ما كان ليتم من دون ضوء أخضر أميركي، وكنا قد أشرنا في مقالة سابقة
تحت عنوان "التلويح بتغيير قواعد اللعبة في الأزمة السورية"، إلى أن
الإدارة الأميركية منحت بالفعل ضوءاً أخضر للحكومة الإسرائيلية يطلق يدها
في شن عمليات عسكرية محدودة ضد أهداف رسمية سورية، تحت ذريعة (مواجهة أي
تهديدات محتملة ضد الأمن الإسرائيلي)، كجزء مما أسماه الرئيس باراك أوباما
بـ"تغيير قواعد اللعبة في الأزمة السورية"، وكتعويض لإسرائيل على إحجام
الولايات المتحدة ودول (الناتو) عن التساوق مع استعجال حكومة نتنياهو عملاً
عسكرياً غربياً للسيطرة على مخزون سورية من الأسلحة النووية.
وأشار
إلى ذلك حينها وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يعلون في مؤتمر صحفي مشترك مع
نظيره الأميركي تشاك هاغل بتاريخ 24/4/2013. وبدا خلال الأسبوعين الماضيين،
من خلال تصريحات المسؤولين والمحللين السياسيين الأميركيين والإسرائيليين،
أن إسرائيل هي الجهة الوحيدة المرشحة لتدخل عسكري محدود في الأزمة
السورية، مع ما قد يحمله ذلك من تورط أكثر من طرف إقليمي ودولي في دحرجة
للأزمة السورية إلى حرب إقليمية مفتوحة، ستنطلق في حال نشوء رد فعل عملي
رسمي سوري على عملية عسكرية إسرائيلية. لكن لا توجد قرائن حتى الآن على أن
الحكومة السورية سترد عسكرياً على العملية الأخيرة، لوقوعها في براثن
حسابات معقدة، استُغلت من تل أبيب ومن ورائها واشنطن، وشجعت الأولى بضوء
أخضر من الثانية على تنفيذ العدوان العسكري دون افتراض رد رسمي سوري.
غير
أن عدم وجود قرائن تفيد بإمكانية إقدام الحكومة السورية على الرد عسكرياً،
في الوقت الحاضر، لا يجب أن يفهم منه أنها لن ترد مستقبلاً إذا قامت
إسرائيل بعدوان آخر يؤثر فعلياً على قدرات الجيش النظامي السوري، التي يتم
توجيهها في المعارك مع كتائب "الجيش الحر". أو إذا شعرت الحكومة السورية
بأن أي عدوان إسرائيلي آخر سيفسر إقليمياً ودولياً بأن قدرات الجيش النظامي
السوري عاجزة عن التصدي لعدوان خارجي، مما سيحفز الولايات المتحدة ودول
(الناتو) على توجيه ضربة عسكرية لسورية، تحاكي الضربة العسكرية ضد ليبيا،
منعَها حتى الآن تقديرات استخباراتية أميركية وغربية بأن سورية تمتلك
منظومة دفاع جوي، قوية وحديثة نسبياً، يمكنها إلحاق ضرر كبير بالطائرات
التي ستنفذ الهجمات، أو تطبيق منطقة حظر طيران فوق أجزاء من الأراضي
السورية.
وإذا أرادت إسرائيل من خلال عدوانها أن تفتح ثغرة (دفرسوار) في
تلك التقديرات، لحثِّ الولايات المتحدة و(الناتو) على التدخل عسكرياً، إلا
أن مأزق الحسابات لدى واشنطن وباريس ولندن لا يقل عن مأزق الحسابات
السورية، فتوجيه أي ضربة عسكرية واسعة للجيش النظامي السوري عمل
ينطوي على محذور حرب إقليمية لا يمكن إدارتها والظفر بها بهجمات جوية
وصاروخية عن بعد، بل تستلزم تدخلاً عسكرياً مباشراً على الأرض، تستبعد منه
مشاركة إسرائيل للحساسية التي تمثلها، ولا يمكن قبولها في أي شكل من
الأشكال، سورياً وعربياً وإقليمياً.
ولعل آخر ما تريده الولايات المتحدة
ودول (الناتو) تكرار التجربتين الأفغانية والعراقية، ما يعيدنا مرة ثانية
إلى أن الخيار الأقل تكلفة (نظرياً) يبقى في السلة الإسرائيلية، لكن مثل
هكذا خيار رغم ما يلحقه بالحكومة السورية من أذى مادي ومعنوي، إلا أنه
يعطيها سلاحاً سياسياً ضد المعارضة، وقد لاحظنا كيف وظفت الحكومة السورية
العدوان الإسرائيلي الأخير سياسياً، في بيان صادر عنها قالت فيه إنها أكدت
منذ وقت طويل "هذا الترابط في الهدف والأدوات والوسائل بين الفكر التكفيري
والصهيونية وعصابات الإرهاب و(جبهة النصرة) ذراع القاعدة في سورية، وقدمت
على ذلك الكثير من الأدلة والوقائع والتي أضيف إليها هذا العدوان..".
ومن
هذه الزاوية يمكن للحكومة السورية أن تخوض معركة إعلامية ضد المعارضة،
لكنها معركة تخاض بسلاح ذو حدين، سيرتد عليها إذا لم ترد في حال إقدام
إسرائيل على عدوان عسكري جديد، وسيرتد كذلك على حلفائها الإقليميين الذين
أكدوا أنهم لن يتركوها وحدها في مواجهة عدوان خارجي.
وفي الحسابات
الأميركية والأوروبية الغربية المعقدة، ينطوي سيناريو احتمال اندلاع مواجهة
إقليمية واسعة على أن تنقل إيران المعركة، في مرحلة ما، إلى منطقة الخليج
العربي باستهداف قواعد عسكرية أميركية، وإشعال الأوضاع في لبنان والعراق،
وعقد صفقة مع حركة "طالبان" لفتح جبهة ملتهبة ضد قوات (الناتو) في
أفغانستان. فضلاً عن أن سيناريو تدخل خارجي أجنبي واسع في سورية سيوتر
العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة والغرب، وسيقضي نهائياً على الفرص
الضئيلة للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية.
وثمة ملاحظة في
السياق، إن البناء على التجربتين العراقية والليبية لوضع مقاربة لسيناريو
تدخل عسكري خارجي في سورية هو بناء خاطئ، فغزو العراق واحتلاله ما كان ليتم
لولا التفاهمات الإيرانية- الأميركية من تحت الطاولة، وما كان التدخل
العسكري الغربي في ليبيا ليتم لولا تفاهم خليجي ومصري وتونسي مع الولايات
المتحدة ودول (الناتو). بينما في الحالة السورية كل دول الجوار غير متحمسة
للتورط في تدخل عسكري خارجي مباشر.
على ضوء ذلك يبدو العدوان الإسرائيلي
الأخير كأحجية من الصعب تفسيرها وفق منطق حسابات واشنطن وباريس ولندن،
بيّْد أن قراءة أبعاد وغايات هذا العدوان، ربطاً بالحسابات ذاتها، تؤكد أن
اللعب الإسرائيلي في المعدة السورية يُتوخى منه جس نبض النظام السوري
وإيران و"حزب الله"، والضغط على روسيا والصين لتقديم تنازلات إزاء الحل
السياسي الممكن والمقبول روسياً وصينياً للأزمة السورية، وهي لعبة بالغة
الخطورة، لأن إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، تلعبها على حافة
سيناريو احتمال اندلاع حرب إقليمية واسعة، حيث سيأتي الوقت الذي سيضطر فيه
الجيش النظامي إذا تكررت الاعتداءات الإسرائيلية، وعندها سيغرق الجميع في
حسابات اليوم التالي المفتوحة على حرب إقليمية واسعة، تصبح فيها الأزمة
الداخلية السورية تفصيلاً صغيراً، بمشاركة أطراف دولية.
والخيار الذي قد
تلجأ إليه واشنطن للهروب من مأزق تلك الحسابات هو تسليح المعارضة السورية،
في خطوه ستحذو باريس ولندن حذوها، والانتظار بعدها حتى تنضج موازين جديدة
على الأرض بين الجيش النظامي والمعارضة المسلحة، وفي هذا السيناريو لا يرجح
إطلاق يد إسرائيل في اعتداءات تفيض عن الحاجة وعما يمكن احتماله سورياً
،كي لا تخرج اللعبة عن نطاق السيطرة.
المصدر