«حزب الله» من بوابة دمشق.. وإليها
من الثورة الإيرانية إلى الطائف، دامت رحلة «حزب الله» عقدا من الزمن، حفلت بالتباسات النشأة والضرورة والدور، لا بل الأدوار، فكانت صولات وجولات.. ودماء كثيرة، قبل أن تستقر الصورة، وترتسم ملامح هذا اللاعب أو ذاك في خريطة المنطقة، وبينها لبنان.
امتلك حافظ الأسد قراءة إستراتيجية للعلاقة مع إيران. ضغط عليه أهل النفط فأغروه بالمال والدور، لكنه رفض أن يكون جزءا من حرب قادها صدام حسين باسمهم جميعا ضد الثورة الخمينية في إيران.
اتقن زعيم البعث السوري إدارة التوازنات، فكانت الثورة الاسلامية الوليدة في طهران أقرب إليه من «رفاقه» في النظام البعثي في بغداد. قرر عدم التفريط بهذه الورقة. صارت سوريا متنفسا عربيا للثورة الصاعدة. الأصح انه أراد توظيفها لاعتبارات متصلة بالصراع مع إسرائيل والدور الإقليمي والنفوذ السوري في لبنان.. وساحات أخرى في المنطقة.
هذه الحسابات الاستراتيجية لم تسحب نفسها على الفريق السوري الذي كان يدير ملف لبنان في مراحل متعاقبة وبين أركانه من أمر باقتحام «ثكنة فتح الله» في نهاية الثمانينيات.
لطالما اتسمت علاقة «حزب الله» بهذا الفريق السوري بالمراوحة بين «القبول» لأسباب إستراتيجية و«الرفض» لحسابات ضيقة ومعادلات محلية بأخف تعبير سياسي ممكن. من الظلم القول أن أركان هذا الفريق قد خالفوا إستراتيجية الأسد، لكن هوامشهم في الادارة لم يكن يستهان بها بل ربما كانت واسعة جدا.
وبرغم اعتراض «حزب الله» على تسوية الطائف، فقد وجد نفسه، بدءا من العام 1992، منتظما في معادلة السلطة، من موقع الشراكة مع الرئيس نبيه بري في إدارة البيت الشيعي الواحد.
ولطالما استفادت الادارة السورية للملف اللبناني من تناقضات محلية وخارجية لتمرير تسويات وقبض اثمانها. الأدلة كثيرة بعد الطائف ولعل أبرزها قرار ارسال الجيش اللبناني الى الجنوب في العام 1993 لنزع سلاح المقاومة بالتنسيق مع جهات إقليمية ودولية.
اتخذ القرار بنشر الجيش ولم يبق الا تحديد ساعة الصفر في المجلس الأعلى للدفاع. في تلك المرحلة، يسجل لاميل لحود عندما كان قائدا للجيش.. أنه قلب الأمور رأسا على عقب.
هدد الضابط الماروني بالاستقالة والذهاب الى بيته وبعث برسالة الى الرئيس حافظ الأسد مع أحد الضباط، فكانت النتيجة أن استدعى الأسد قائد الجيش اللبناني وتعرف إليه، وصدرت أوامر معاكسة لقرار «المكلفين» بالملف اللبناني في دمشق.
وبرغم انخراط «حزب الله» في العملية السياسية الداخلية (المجالس النيابية المتعاقبة منذ العام 1992)، ظلت العلاقة بين الحزب وهؤلاء «المكلفين» محكومة بالمد والجزر. هناك عشرات الوقائع في السياسة والأمن لعل أبرزها واقعتان: الأولى، اكتشاف محاولة اغتيال بسيارة مفخخة على طريق البقاع الشمالي، كادت تطيح بعدد من القياديين في شورى «حزب الله» وبينهم السيد حسن نصرالله. الثانية، واقعة اعتقال القيادي المقاوم ابو حسن سلامة في أحد السجون السورية قبل أن يفرج عنه ويتمكن الاسرائيليون من اغتياله لاحقا (في العام 1997 في بلدة عبرا شرق صيدا).
في الواقعتين، تبين وجود طرف خيط لجهات سورية، وفي الواقعتين، تصرف الرئيس حافظ الأسد بطريقة مغايرة.. أزعجت كثيرا الفريق السوري الذي كان يتولى ادارة الملف اللبناني.. سياسيا وأمنيا.
وعندما انجز التحرير في العام 2000، تصرف البعض في سوريا وكأنه هزم مع خروج آخر جندي اسرائيلي من الجنوب اللبناني. كان عقل هذا البعض في ظل مرض حافظ الأسد، يعتبر ان الانسحاب هزيمة استراتيجية لاعتبارات غير لبنانية.
هذا البعض في سوريا، حاول في تلك المرحلة أن ينقل بعض أمراضه الى وريث حافظ الأسد. تراكمت الملفات من سوريا الى لبنان.. فكان قرار ابعاد هؤلاء عن كل مقاليد الملف اللبناني.
عندما خرجت سوريا من لبنان في ربيع العام 2005، قال أحد القياديين اللبنانيين البارزين لبشار الأسد: «معظم من وقفوا في ساحة 14 آذار (باستثناء عون و«القوات») كانوا من المستفيدين المباشرين في مرحلة «الوصاية السورية». وفي المقابل، فان معــظم من وقــفوا في ساحة 8 آذار، كانوا من ضحايا «الوصاية السورية» وعلــى رأســهم حزب الله».
انها السياسة على الطريقة اللبنانية. فمن ارتموا في حضن سوريا عقودا من الزمن واستفادوا شخصيا من خلال مواقعهم في السلطة، فجأة صاروا من ألد خصومها. أما من كانوا خارج منظومة الفساد اللبناني ـ السوري، فقد دفعوا أفدح الأثمان، أثناء مرحلة «الوصاية».. وبعدها.
«حزب الله» لم يكن حزبا سوريا في بدايته وليس حزبا سوريا اليوم ولن يكون كذلك في المستقبل. ربما من كانوا حلفاء سوريا وانقلبوا عليها يعودون سوريين أكثر من سوريا نفسها. هذه ألفباء السياسة في لبنان.
هل لنا أن نسأل «حزب الله» ماذا تفعل في سوريا التي فعلت بك كل ما فعلت في الماضي القريب؟
نعم يحق لنا أن نسأل الحزب وقيادته.. لكن يحق لها أن تجيب أنها بهذا الانخراط، تدافع عن خيارات وليس عن مصالح.
هل هو قتال محكوم بأمر ايراني؟
كثيرون من عارفي الحزب جيدا يدركون أن الحزب لم يكن ليتخذ قرار القتال على أرض سوريا بسهولة. هذا القرار استوجب عشرات الساعات وشهورا من النقاش قبل اتخاذه.
هل يستطيع الايرانيون توجيه أمر عمليات للحزب بالانسحاب من سوريا؟ الجواب عند الحزب مختلف عن حسابات أولئك الممتلئين ثقة بأن الحزب يأتمر بأوامر طهران.
صار القتال في سوريا دفاعا عن الذات. عن المقاومة. أن يضع أمين عام «حزب الله» الخطر التكفيري في موازاة الخطر الاسرائيلي، فهذا ليس وليد لحظة. هذا خيار فرضته معطيات ليس أقلها نزق بعض المعارضات السورية التي بكرت باستعداء «حزب الله» في لحظة اندفاعه لفتح ابواب حوار مع ألد أعداء النظام السوري.
قلة قليلة تعلم أن حزب الله ومنذ اللحظة الأولى لاندلاع الأزمة السورية استخدم كل ما توفر لديه من نفوذ لانتاج تسويات. لم يترك معارضا اسلاميا (وهذه تسجل عليه وليس له) وخصوصا من «الأخوانيين» الا ودق بابه ساعيا الى تقديم افكار ومشاريع تسويات. كان جواب الجميع باستثناء قلة قليلة لم يقطع الحزب معها، أن النظام «انتهى وصار وراء ظهرنا.. ونحن في مرحلة صياغة البدائل».
صارت قضية سوريا بالنسبة الى المقاومة، قضية حياة أو موت. أن تسقط سوريا، يعني أن تقطع «الأوكسيجين» الطبيعي عنها، فهل يمكن لعاقل أن يسمح لآخرين أن يتخذوا قرارا بموته؟
صار الفصل مستحيلا. الربح واحد والهزيمة واحدة.
حزب الله يدافع عن سوريا.. برغم ما دفعه ويدفعه من أثمان في الداخل اللبناني.
معظم حلفاء سوريا السابقين ممن استفادوا في «زمن الوصاية»، اما أنهم تورطوا في الحرب ضدها واما أنهم ينتظرون على رصيف المنتظرين سقوطها.
لنا أن نحترم خيار حزب انتقل من مربع صناعة معادلات في الصراع العربي ـ الاسرائيلي الى صياغة معادلات جديدة في الجغرافيا السياسية للمنطقة.
«لن يسقط النظام في سوريا. هذا خط أحمر».
عبارة قيلت منذ اليوم الأول للأزمة السورية ولم يتبدل منها حرف واحد حتى الآن.. عند قيادة «حزب الله».
http://www.shamtimes.net/news-details.php?id=804