ازمة الكيماوي السوري بقلم سايمور هيرش
كتب سايمور هيرش :
قاد أوباما تدخلاً عسكرياً في ليبيا عام 2011 من دون موافقة الكونغرس. وفي آب/أغسطس الماضي، وبعد الهجوم الكيماوي الذي وقع في الغوطة في دمشق، كان متوقعاً أن يعيد الكرّة بضربة جوية مماثلة، لمعاقبة الحكومة السورية «على تجاوزها الخطوط الحمراء التي وُضعت عام 2012 والتي تحظّر استخدام الأسلحة الكيماوية». وقبل يومين على موعد الضربة المفترض، قرّر أنه يريد أخذ موافقة الكونغرس على هذا التدخل. فتأجل القرار وما لبث أن ألغِيَ بعدما قبِل أوباما ـ عبر الوسيط الروسي ـ بعرض الأسد وتعهده بالتخلص من كامل ترسانته الكيماوية.
لِمَ تأخر أوباما، وبالتالي ليّن موقفه من سورية، بينما لم يخجل حين هرع إلى ليبيا؟ الجواب بقي ضائعاً بين إدارة ملتزمة معاقبة متجاوزي الخطوط الحمراء، وبين قادة عسكريين يتحاشون التورّط بحرب غير مبرّرة وكارثية النتائج.
أسباب تغيير أوباما آرائه حيال هذه الكارثة تعود إلى «بورتون تاون» ـ مختبرات الدفاع في ويلتشاير ـ إذ قامت الاستخبارات البريطانية بتحليل عيّنة من غاز الأعصاب السارين الذي استعمل في هجوم آب الماضي، لتكتشف أن مثل هذا الغاز لا يتوافر ضمن ترسانة الأسلحة الكيماوية الموجودة لدى الجيش السوري. رسالةٌ خطيرة لم تلبث أن انتقلت كالنار في الهشيم إلى هيئة الأركان المشتركة الأميركية. هذا التقرير البريطاني زاد من الشكوك داخل البنتاغون في الوقت الذي كان يتحضّر فيه رؤساء هيئة الأركان لتحذير أوباما من أنّ أيّ هجوم عسكريّ وجويّ على سورية، سيقود إلى حرب شاملة في الشرق الأوسط. وكان أن نجح هؤلاء في إقناع أوباما ـ وفي اللحظة الأخيرة ـ في العدول عن قراره.
لأشهر عدّة، اهتمّ القادة العسكريون وكذلك المجتمع الاستخباراتي بالدور الذي لعبه جيران سورية في الحرب الدائرة فيها، وتحديداً تركيا. فمن المعروف أنّ رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان كان يساند جبهة النصرة، كما معظم المجموعات المسلّحة. أخبرني ضابط سابق رفيع المستوى في الاستخبارات الأميركية «أن الأتراك اعتقدوا أنّهم يستطيعون إخضاع الأسد بافتعال أزمة استخدام غاز السارين داخل سورية بهدف إجبار أوباما على معاقبة متجاوزي الخطوط الحمراء».
أقرّت هيئة الأركان المشتركة الأميركية أنّ ادّعاءات إدارة أوباما بامتلاك الجيش السوري ـ فقط ـ غاز السّارين هو ادّعاءٌ خاطئ. فالاستخبارات الأميركية والبريطانية كانت تعلم منذ ربيع 2013 بقيام المجموعات «المتمرّدة» في سورية بتطوير أسلحة كيماوية. كذلك أصدر نائب مدير الوكالة الاستخباراتية الأميركية ورقةً قيّمةً من خمس صفحات، تختصر النقاط الأساسية لمؤتمر نائب مدير وكالة الاستخبارات الدفاعية «ديفيد شيد»، الذي أكّد أن جبهة النصرة استطاعت تطوير خلية سرية لإنتاج غاز السّارين: وأكد «أن هذا الغاز يعتبر بمثابة المؤامرة الأكثر تطوّراً للجهود التي تبذلها «القاعدة» في هذا المجال بعد أحداث 11 أيلول. ومن المعروف أنّ مستشار وزارة الدفاع كان قد صرّح أنّ الاستخبارات الأميركية تعلم منذ فترة بجهود يبذلها تنظيم القاعدة لتطوير الأسلحة الكيماوية، وأنها تمتلك شريطاً مصوّراً يُظهر تجارب هؤلاء على الكلاب .
ويتابع تقرير الوكالة: «إن التركيز السابق للمجتمع الاستخباراتي كان على مخزون سورية من الأسلحة الكيماوية…».
إن الحرية النسبية التي تتحرّك فيها جبهة النصرة داخل سورية تقودنا إلى توقع صعوبة السيطرة على قدراتها في تطوير الأسلحة الكيماوية مستقبلاً. إلى جانب ذلك نقل هذا التقرير معلومات استخباراتية سرّية من وكالات عدّة: «تسهيلات كيماوية تركية وسعودية»، ويضيف: «محاولات حثيثة لإيصال كمية كبيرة عشرات الكيلوغرامات من غاز السّارين إلى هؤلاء المقاتلين بهدف زيادة الإنتاج داخل الأراضي السورية. وردّاً على سؤال حول هذه الورقة، يجيب المتحدث بِاسم مدير الاستخبارات الوطنية: «لم يحدث أن طلبنا من محلّلي المجتمع الاستخباراتي إصدار مثل هذه الورقة» .
ألقيَ القبض على مجموعة من عشرة أشخاص ينتمون إلى جبهة النصرة في الجنوب التركي في أيار الماضي، بتهمة حيازتهم كيلوغرامين من غاز السّارين. اتُّهم هؤلاء بمحاولاتهم شراء الصمّامات والأنابيب لصنع مدافع الهاون والمواد الكيماوية اللازمة لتطوير غاز السّارين. أُطلِق سراح خمسة من هؤلاء المعتقلين بعد فترة احتجاز قصيرة. بينما الآخرون ومن بينهم قائدهم هيثم القصّاب والذي تبيّن أنه من أخطر الأسماء في عملية ضبط غاز السارين والذي حُكِم عليه بالسجن لمدة 25 عاماً، أُطلِق سراحه بانتظار محاكمته.
كتبت الصحف التركية كثيراً حول مدى تورّط إدارة أردوغان وتستّرها على «المتمرّدين»، إلى حدّ أنّ السفير التركي لدى روسيا أيدين سيزجين ـ وخلال مؤتمر صحافي ـ أعلن رفضه هذه الاعتقالات باعتبار أنّ المواد التي ضُبطت مع المعتقلين هي مجرّد مواد «مانعة للتجمّد»!!!
اتّخذت وكالة الاستخبارات الدفاعية من هذه الاعتقالات دليلاً على أنّ جبهة النصرة تقوم بتوسيع رقعة نشاطاتها الكيماوية. وتقول أنّ القصّاب هو عضو في جماعة النصرة ومرتبط مباشرة بعلاقة مع عبد الغني أمير فرع التصنيع العسكري في الجماعة. فالقصّاب وشريكه خالد أسطى يعملون لدى هاليت أونالكايا وهو موظف في شركة تركية تدعى «Zirve Export»، بتوفير عروض أسعار بكميات كبيرة لسلائف غاز الأعصاب السّارين. كانت خطة عبد الغني تقضي بضرورة إتقانه واثنين من مساعديه إنتاج غاز السّارين على مستوى متطوّر في مختبر سرّي في سورية. كما أكد الملف قيام أحد عملاء عبد الغني بشراء هذه السلائف من «سوق بغداد الكيماوي»، الذي نعرف عن دعمه ـ على الأقل ـ سبعة من أنشطة كيماوية منذ عام 2004.
قامت مجموعة من القوات الدولية بالتحقيق في عدد من الهجمات الكيماوية التي حصلت في آذار ونيسان 2013 في سورية. وقد أخبرني مسؤول رفيع المستوى أنّ هناك أدلة على تورّط مجموعات «المعارضة» السورية في هجوم الغاز الأول الذي وقع في 19 آذار في خان العسل ـ حلب. وفي التقرير النهائي لهذه المجموعة، والذي صدر في كانون الأول، تبيّن أنّ 19 مدنياً وجندياً سورياً واحداً كانوا من بين الضحايا، إضافة إلى عدد كبير من الجرحى. لم تكن هذه المجموعة مكلّفة تحديد المسؤولين عن الهجوم، لكن هذا الشخص المسؤول قال: «المحققون قابلوا الناس الذين كانوا هناك بمن فيهم الأطباء الذين عاينوا الضحايا، وكان واضحاً أنّ «المتمرّدين» هو من استعملوا الغاز. لكن لم يخرج هذا الموضوع إلى العلن لأنّ أحداً لم يكن يرغب بذلك».
في الأشهر التي سبقت حدوث هذا الهجوم، أكد مسؤول رفيع سابق في وزارة الدفاع أن وكالة الدفاع الاستخباراتية تداولت تقريراً سرّياً داخلياً شبه يوميّ يُعرف بِاسم «SYRUP» حول كافة المعلومات المتعلقة بالنزاع السوري، ومن ضمنها معلومات عن الأسلحة الكيماوية. لكن في الربيع، ومع هجوم شهري آذار ونيسان، حُدَّ من إصدار هذا التقرير وذلك بأمر من دينيس ماكدونوف، كبير موظفي البيت الأبيض. وبحسب مسؤول وزارة الدفاع الأسبق: «شيء ما في هذا التقرير أثار غضب ماكدونوف». كانت أبعاد إيقاف إصدار هذا التقرير مذهلة للغاية، فبعد هجمات السارين في آذار ونيسان تبخّر الموضوع فجأة وكأنه لم يكن. إذ أُخذ قرار يقضي بحدّ هذا التقرير وحصر توزيعه، وكان أن أصدر رؤساء هيئة الأركان المشتركة إيعازاً يقضي بوضع خطط عاجلة وطارئة تتعلّق باجتياح برّي لسورية هدفه الأساس تدمير سلاحها الكيماوي. وأكمل المسؤول السابق في الاستخبارات أنّ عدداً من مسؤولي وكالة الأمن القومي الأميركية أظهروا امتعاضهم من الخط الأحمر الذي حدّده الرئيس أوباما وتساءلوا أمام رؤساء هيئة الأركان عن كيفية ترجمة مصطلح «الخط الأحمر»: أيتمّ ذلك بصيغة أوامر عسكرية، أو قوات على الأرض، أو غارة ضخمة، أو ضربة محدودة؟ ويضيف المسؤول: «أُوكلت الاستخبارات العسكرية مهمة دراسة كيفية تنفيذ هذا التهديد، في الوقت الذي لم يكن لديهم تصوّر البتة حول منطق تفكير الرئيس».
قام أوباما بعد ذلك بإصدار توجيهات إلى البنتاغون بوضع خريطة بالأهداف التي ستُقصف في سورية، وذلك عقب هجوم 21 آب. رفض البيت الأبيض بدايةً 35 مجموعة لأهداف حدّدها رؤساء هيئة الأركان المشتركة بحجة أنّها «لا توجع النظام بقدر كافٍ». فقد شملت الأهداف الأصلية مواقع عسكرية فقط، ولم تتضمّن البنى التحتية بأيّ شكل من الأشكال. وما لبثت أن تحوّلت هذه الخطة إلى «ضربة ضخمة جداً»، وذلك بضغط من البيت الأبيض، إذ نُقل سربان من قاذفات «بي ـ 52» إلى قاعدة عسكرية قريبة من سورية، ونُشِرَت غوّاصات وسفن حربية مزوّدة بصواريخ «توماهوك».
وتابع المسؤول الاستخباراتي السابق: «كانت القائمة تطول يوماً بعد آخر، وعبّر المسؤولون في البنتاغون عن أن وظيفة صواريخ «توماهوك» هي فقط لضرب مواقع الصواريخ السورية، إلا أنّ هذه الصورايخ لن تكون كافية، فالمواقع عميقة جدّاً تحت الأرض، وكان أن أُضيف سربا قاذفات «بي ـ 52» التي تحمل قنابل بِوَزْن ألفي رطل إلى المهمة…».
ويتابع هذا المسؤول أنهم «سيحتاجون إلى فرق بحث وإنقاذ مستعدّة لإنقاذ الطيّارين، فضلاً عن طائرات من دون طيار لتحديد الأهداف، وما لبث أن أصبح الأمر ضخماً جدّاً. فهذه القائمة الجديدة ـ والتي شملت شبكات الكهرباء ومستودعات النفط والغاز، وكافة المستودعات المعروفة للأسلحة والإمداد وكافة منشآت القيادة والتحكم والمباني المعروفة العسكرية والاستخباراتية ـ تعني القضاء نهائياً على قدرات الأسد العسكرية.
صحافي أميركي ولد في شيكاغو عام 1937، فاز بجائزة «بولتزر للصحافة»، واشتهر عام 1969 بعد كشفة مذبحة قرية «ماي لاي» التي ارتكبتها القوات الأميركية خلال حرب فييتنام. وتنفرد «البناء» بترجمة مقاله الهام هذا، وذلك حرفيّاً وعلى حلقات.
http://shamtimes.net/news-details.php?id=1022