لم تعد قضية الأمن العربي في ظل التحديات الثقيلة التي تجتاج الوطن
العربي، هي قضية نظريات أو احتمالات، وإنما أصبحت قضية واقع حقيقي تعيشه
كل يوم قيادات عربية، ويعرفها الشعب العربي على امتداد تراب الوطن العربي،
اذ لم تعد أخطار التحديات المفروضة مجهولة المعالم أو محددة الأبعاد،
وإنما أصبحت تتهدد بجائحاتها كل انسان عربي، ليس في عقر داره فحسب، بل
تطارده حيثما توجه في أرجاء الدنيا الواسعة. ولم يتشكل ذلك يقيناً من فراغ
أو بصورة مباغتة، وإنما أسهمت في تشكيله استطالات تاريخية متطاولة في عمق
الزمن، غير أن الصراعات الدولية المتجددة والمتعاظمة قد مارست دورها في
تفجير أوضاع الأقاليم العربية، ووجهت تهديداتها وتحدياتها إلى الوطن
العربي بأكمله، ولو بدرجات متباينة نسبياً. وبات السؤال المطروح: كيف وأين
سيستقر المركب العربي وسط هذه الأنواء العاصفة؟ وكيف يمكن التعامل مع كل
التحديات في ظل عودة (استراتيجيات الاستقطاب) و (سياسات الحروب) المتجددة،
وتيارات (سباق التسلح)؟.
1- البحث عن الأمن العربي
لم يكن قيام
الدول الخليجية بتكوين ( مجلس التعاون الخليجي) في العام 1982م، إلا
استجابة صادقة في مواجهة التحديات التي تشكلت في ذروة عصر الحرب الباردة،
ورداً على متطلبات الصراع التي تفجرت بتفجر الحرب العراقية - الإيرانية
بين عامي1980 - 1989م، وقد استطاع (مجلس التعاون الخليجي) أن يطور قدراته
في كل المجالات بصورة منهجية متجاوزاً مجموعة من الصعوبات والعقبات التي
نظمتها التحديات المفروضة. وقد يكون بالمستطاع تجاوز كل التحديات وما
تبعها من استجابات طوال الحقبة الماضية للتوقف عند ما هو أقربها عهداً
وأكثرها وضوحاً، واختيار بعض نماذجها وامثولاتها، ومن ذلك زيارة وزير
الدفاع الفرنسي للمملكة العربية السعودية في أواخر أكتوبر 2007م، ثم
للإمارات العربية المتحدة بعد يومين، ثم الجولة الموسعة على دول المنطقة
لوزيري الخارجية والدفاع الألمانيين، لقد كان ذلك دليلاً واضحاً على خطر
انزلاق المنطقة إلى حرب مجهولة النتائج، مما دفع خادم الحرمين الشريفين
الملك "عبدالله بن عبدالعزيز" للقيام بجولة في أوروبا، شملت: (إنجلتر،
وألمانيا، والفاتيكان، إيطاليا)، حيث أعلن في لندن يوم 1 تشرين الثاني -
نوفمير 2007م عن اقتراح - أعلنه سمو الأمير "سعود الفيصل" وزير الخارجية،
واعتمدته دول الخليج وحملته المملكة العربية السعودية -يطلب من إيران
تجنيب المنطقة الحرب، والموافقة على تخصيب اليورانيوم خارج المنطقة
بمشاركة إيرانية.
وفي زيارة خادم الحرمين الشريفين للعاصمة الألمانية
برلين أعلن يوم 7 تشرين الثاني نوفمبر 2007م ما يلي: (أجرى الملك عبدالله
بن عبدالعزيز - عاهل المملكة العربية السعودية - مباحثات مع المستشارة
الألمانية "أنغيلاميركل" شملت في جانبها السياسي معالجة موضوعين: الأول:
التطورات في الشرق الأوسط قبيل اجتماع أنابوليس، والثاني: التطورات في
إيران وتأثيرها على العالم الإسلامي، والاستقرار في باكستان وأفغانستان،
وفي اليوم ذاته "7 تشرين الثاني - نوفمبر 2007م" كان نائب وزير الدفاع
السعودي الأمير "عبدالرحمن بن عبدالعزيز" يطلق تحذيره من الرياض في كلمته
أمام وزراء الدفاع في مجلس التعاون الخليجي الست والتي جاء فيها: (إنني
أدعو إلى تطوير جيوش دول المجلس للتصدي للتهديدات التي تواجهها المنطقة،
ويجب علينا العمل جاهدين لتطوير قواتنا المسلحة حتى تكون قادرة على ضمان
الاستقرار الإقليمي، وأمن مصادر الطاقة في ظل التهديدات التي نواجهها، وإن
هذا الهدف يفرضه الحوار الاستراتيجي، وتغيير مصادر التهديد، وظهور خطر
الإرهاب، وصعود قوى إقليمية مؤثرة في المنطقة). ومع تطوير الاستعدادات
القتالية التي لم تكن عبر التاريخ إلا الدرع الوقائي ضد أخطار الحروب
وضياع السلم والأمن؛ فقد استمرت الجهود العربية للتعامل بصورة إيجابية مع
التوتر المتصاعد في منطقة الخليج، ليرسل استطالاته إلى المنطقة العربية من
خلال ما أطلق عليه اسم (الامتداد الفارسي) أو (الهلال الشيعي)؛ الذي ينطلق
من طهران ليصل إلى حزب الله في جنوب لبنان، وإلى حماس في (غزة) مروراً
بدمشق، ويمكن اعتبار نقطة التحول في التعامل مع هذا الخطر الذي هيمن بشكل
مثير للقلق خلال تلك الفترة عندما وصل الرئيس الإيراني "محمود أحمدي نجاد"
إلى الرياض يوم 3 أذار - مارس 2007م، وقام بإجراء مباحثات مع خادم الحرمين
الشريفين الملك "عبدالله بن عبدالعزيز" أحيطت بالكتمان، ولكن تطور الأحداث
بعد هذا اللقاء أكد أن هناك معالجة واقعية وشفافة (واضحة) لقضية التوتر
المتصاعد والناتج عن السياسات الاستفزازية للنظام الإيراني، وبصورة خاصة
ضد دول الخليج العربي، مع بذل كل جهد مستطاع لتجنيب الانزلاق إلى حرب
طائفية في العراق ولبنان بخاصة. وجاءت مقررات القمة العربية في الرياض
(قمة التضامن العربي)، والتي أعلنت يوم 29 أذار - مارس 2007م، لتؤكد هذا
الاتجاه، وذلك بتقديم الدعم لتحقيق التوافق في لبنان، ودعم الشعب العربي
في فلسطين، ولبنان، والعراق، للوصول إلى السلام، وكانت دعوة خادم الحرمين
الشريفين للرئيس الإيراني لأداء فريضة الحج من العام 1428ه كانون الأول -
ديسمبر 2007م بمثابة تأكيد لإرادة إبعاد شبح الخطر عن الأفق العربي وتخوم
الوطن العربي، وهو ما أعيد تأكيده أيضاً عندما وجهت الدعوة للرئيس
الإيراني لحضور قمة مجلس التعاون الخليجي التي عقدت في (قطر - الدوحة) 3-5
كانون الأول - ديسمبر 2007م، حيث تقدم الرئيس "محمود أحمدي نجاد" باقتراح
لعقد اتفاق أمني مشترك، وإنشاء مؤسسة أمنية للتعاون بين ضفتي الخليج،
وتأسيس منظمة للتعاون الاقتصادي بين الجانبين، وإلغاء تأشيرات الدخول بين
إيران ودول المجلس، وكذلك الاستثمار المشترك في الطاقة والتعاون العلمي
والتربوي والاقتصادي والسياحي، وتضمن البيان الختامي للقمة الخليجية ما
يلي: (تؤكد دول المجتمع تمسكها بمبدأ الوصول إلى حل سلمي لملف إيران
النووي، وتدعو إيران لمواصلة الحوار مع المجتمع الدولي، وترحب بتعاونها
المستمر مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية)، ويظهر أن محاولات إبعاد شبح
الحرب عن المنطقة لم تبلغ مداها وغايتها فقد استمرت عمليات (الحرب
الكلامية ضد إيران) وهذا ما عبر عنه وزير الدفاع الأمريكي "روبرت غينتس"
في كلمة له أمام (منتدى حوار المناعة الأمني) يوم 8 كانون الأول - ديسمبر
2007م وجاء فيها: (مازالت إيران قادرة على استئناف برنامجها للتسلح
النووي، وهي مستمرة في تخصيب اليورانيوم. كما أن السياسة الخارجية
الإيرانية تهدد مصالح الولايات المتحدة والمنطقة فهي مسؤولة عن الفوضى في
العراق، ولبنان، والأراضي الفلسطينية، وأفغانستان، وإنني أدعو دول الخليج
للعمل معاً من أجل تحسين أمن المنطقة، وتطوير أنظمة إقليمية للدفاع
الصاروخي، تشكل مظلة حماية ودفاع في المنطقة لمواجهة التهديد الإيراني).
وقد
استقبلت منطقة الخليج العربي موجة متصاعدة جديدة من التوتر مع إطلالة
العام الميلادي الجديد 2008م؛ حيث تناقلت وكالات الأنباء ما أذاعته
(واشنطن) عن صدام وشيك بين زوارق إيرانية مسلحة وبارجة أمريكية عند مضيق
هرمز، وقد يكون من الصعب في مناخ انعدام الثقة تصديق أي من الطرفين
(الأمريكي والإيراني) عن حقيقة الموقف غير أن هناك حقيقة أخرى لابد من
تصديقها وهي أن مثل هذه السياسات العسكرية قد تؤدي إلى انزلاق سريع نحو
حرب عندما يكون أحد الطرفين - أو الطرفين معاً - يبحثان عن ذريعة للحرب
التي يعملان لها، والمهم في الأمر أن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا
قد أفادتا من هذا الحادث - وإلى أبعد الحدود - عندما قام الرئيس الأمريكي
"جورج بوش" بجولته في المنطقة في الفترة (10-16 كانون الثاني - يناير
2008م)، والتي شملت فلسطين، وإسرائيل، والكويت، والإمارات العربية
المتحدة، والبحرين، والسعودية، وانتهت بمصر، والتي اقترنت زمنياً بجولة
مماثلة قام بها الرئيس الفرنسي "نيكولا ساركوزي". وكان الغطاء السياسي
لهذه الجولات هو دعم أمن دول الخليج والحد من أخطار التهديدات والتحديات
الإيرانية. ففي كلمة الرئيس الفرنسي "نيكولا ساركوزي" أمام مجلس الشورى
السعودي يوم 14 كانون الثاني - يناير 2008م صرح بما يلي: (لانريد أن نكون
فقط شريكاً اقتصادياً استراتيجياً للسعودية، بل شريك سياسي أيضاً)، ووقعت
الحكومتان - السعودية والفرنسية -أربع اتفاقيات تعاون في مجالات الطاقة
والتعاون السياسي، ومشروعات عقود تصل قيمتها إلى (40) مليار يورو بالإضافة
لمشاريع تسلح قيمتها (12) مليار يورو تشمل بيع فرنسا للسعودية حوامات
وطائرات تموين، وفرقاطات، وغواصات، ومنظومات مراقبة جوية وبحرية، ومنظومات
دفاع جوي. ووقعت فرنسا مع الإمارات العربية المتحدة اتفاقية لإنشاء أول
قاعدة عسكرية دائمة في الخليج مقابل السواحل الإيرانية، بالإضافة إلى عقود
تسلح بين فرنسا والإمارات قدرت بقيمة (20) مليار يورو، وكانت العقود التي
أبرمتها الولايات المتحدة مع دول الخليج تشمل أسلحة متنوعة لتطوير القدرات
الدفاعية وبمبالغ كبيرة (40 مليار دولار).