بين حربين (1957 - 14 مايو 1967) :
لم يكن أمام الأركان العامة الإسرائيلية - وقد استوعبتالدروس جيداً - من سبيل إلا أن تضع نصب عينيها هدفاً أساسياً .. هو خلققوات مسلحة حديثة ومتطورة تتركز قوتها الضاربة أساساً فى القوات الجويةوالمدرعات حتى يمكنها تنفيذ المطالب الملقاة على عاتقها من الدفاع عن دولةإسرائيل والهجوم على الدول العربية المحيطة للحصول على نصر حاسم .. على أنيتم هذا البناء فى ظل مبدأ أساسي وعقيدة ثابتة.
(العمل الهجومي ونقل المعركة خارج الحدود الإسرائيلية بعيداً عن مناطق السكان والأهداف الحيوية).وعلى هذا تم استبدال موشى ديان رئيس الأركان العامة وتولى حاييم لاسكوفالمسئولية وعلى الفور قام بإعداد برنامج شديد الطموح أسماه "برنامج الردع"ووضع تفاصيل تنفيذه بهدف إعادة تشكيل ودعم وتدريب الجيش الإسرائيلي ..وكانت أهم نقاط هذا البرنامج :-
- تدريب القوات على استخدام الأسلحة والمعدات الحديثة وتمكينها من الحركة السريعة.
- زيادة التنسيق بين الأسلحة المختلفة حيث أن النصر لا يمكن تحقيقه إلا بالتنسيق الجيد بين أفرع وأسلحة القوات المسلحة.
- التأكد من أن القوات الإسرائيلية قادرة على الاشتراك فى العمليات بكامل قواها بمجرد الهجوم على إسرائيل.
- إنشاء نظام عسكري قوى بواسطة الإمكانيات المحدودة للدولة مع وضع نظام صارم خاص بالتعبئه والتركيز على :-
(1) بناء قوة جوية كبيرة من الطائرات القاذفة المقاتلة.
(2) إنشاء قوة ضاربة مدرعة ميكانيكية وسلاح متخصص للمهندسين.
(3) إنشاء قوة اقتحام جوي رأسي وجنود جو ذو كفاءة عالية.
القوات الجوية الإسرائيلية :وعلى هذا نالت القوات الجوية الإسرائيلية الأسبقية الأولى فى برنامجلاسكوف وبالتحديد قوات جوية تعتمد على المقاتلات القاذفة .. ولم توضع هذهالأسبقية من فراغ وإنما كان عن تفهم لدور القوات الجوية وأثره الواضح فىحروب المنطقة ..
ولتنفيذ المهمة الرئيسية للقوات المسلحة الإسرائيلية وهي العمل الهجوميونقل المعركة إلى أرض العدو .. ونتيجة للتقييم الصحيح للمرحلة الأولى فىالعمليات الخاطفة فقد ألقي على عاتق القوات الجوية الإسرائيلية الحصول علىالسيطرة الجوية عند بداية المعركة حتى تتفرغ بالجزء الأكبر منها لدعمعمليات الوحدات البرية حتى تضمن النجاح السريع للعمليات البرية فى وقتقصير.
وكان القادة الإسرائيليين على مستوى الدولة وعلى اختلاف تخصصاتهم مقتنعينتماماً بذلك الأسلوب فى الحرب لدرجة لا يرقى إليها الشك وقد أوضح ذلك "
شيمونبيريز وزير الدفاع الإسرائيلي وقتئذ حين قال عام 1962. إن المبدأ الرئيسيالذي يشغل أذهاننا وتفكيرنا حول إسرائيل هو تدعيم القوات الجوية .. فإنالجانب الذي سيفاجئ خصمه من الجو سوف يفوز بتفوق حاسم يحدد فى الواقع مصيرالحرب من البداية. إن المعركة الفاصلة ستتحقق بالطائرات فى الجووبالمدرعات على الأرض" وبتأمل هذا التصريح الذي أدلى به نائب وزيرالدفاع الإسرائيلي نرى خطة واضحة تماماً لما جرى بعد 5 سنوات فى حرب يونيولكن أحداً لم يلتفت لهذه الكلمات الهامة.
وبنظرة مكثفة على القوات الجوية الإسرائيلية فى هذه الفترة والتي تحددت مهامها فى:-
- توفير الحماية فوق سماء إسرائيل.
- الحصول على السيطرة الجوية فوق مسرح العمليات.
- دعم ومعاونة القوات البرية والبحرية.
نجد أن أولى بنود التطوير الذي بدأ على يد تلكوفسكى قائد القوات الجوية فىذلك الوقت كان هو الطائرة .. فمن دراسة ما دار فى حرب 1956 وضح محدوديةدور القاذفات فى الحصول على السيطرة الجوية لذا استقر الرأي على أن القوةالرئيسية للطيران الإسرائيلي تقوم على طائرات متعددة المهام من مقاتلاتومقاتلات قاذفة.
وجاء عايزرا وايزمان قائداً للقوات الجوية الإسرائيلية من عام 1958 وحتى1966 وقد استطاع خلال هذه الفترة تشكيل قوات جوية مكنت دولة إسرائيل منتحقيق انتصارات سياسية وعسكرية على الدول العربية لم تكن تحلم بها إطلاقاًيعود الفضل فيها أساساً إلى أنها دولة تمتلك قوات جوية قادرة على حسمالمعارك فى وقت قصير.
وكان أمام وايزمان العديد من الطائرات من إنجلترا أو فرنسا أو الولاياتالمتحدة لكن الهدف أمامه كان واضحاً. وكانت مواصفات الطائرة المطلوبةمحددة فى:-
- طائرة ذات مدى عمل كبير يمكنها الوصول إلى عمق مصر.
- طائرة لها قدرة عالية على حمل قنابل وصواريخ لإحداث أكبر تدمير بأقل عدد من الطائرات.
- طائرة لها قدرة عالية فى المناورة حتى يمكنها التفوق فى الاشتباكات الجوية.
وقد وجد وايزمان كل تلك الشروط والمواصفات فى الطائرة الفرنسية ميراج 3-سى وهي التي كانت عامل الحسم فى ضربة يونيو 1967م.
وفى نفس الوقت وضعت الخطة لإعداد الطيارين بأعداد كبيرة تكفل استخدامالطائرات بأعلى معدل ممكن .. واعتماداً على نظام الاحتياط نجحت إسرائيلقبل الحرب فى الوصول بأعداد الطيارين إلى ضعف عدد الطائرات .. ولتوضيح هذهالنقطة للقارئ فإن الطائرة يمكنها أن تقوم فى الحرب بعمل عشرة طلعات فىاليوم أما الطيار فله قدرة لا تزيد عن 3-4 طلعة فى اليوم فقط .. وعلى هذافمضاعفة عدد الطيارين الإسرائيليين بالنسبة لعدد الطائرات يجعلها قادرةعلى تنفيذ عدد مضاعف من الهجمات.
وكان تدريب الطيارين يتم على أسس واقعية وعلى نمط الخطة التي سيتم تنفيذهافى الحرب .. فتم إنشاء مطارات ومواقع هيكلية فى صحراء النقب مشابهة تماماًلما سيتم مهاجمته من مطارات ومواقع مصرية.
ولم يغفل وايزمان عن تدريب الأطقم الفنية فأولوها عناية كبيرة فكان لهادور فعال فى إعادة التموين والتسليح للطائرة مما جعل الفاصل الزمني بينالغارة والأخرى زمناً قياسياً.
الطائرة الميراج 3 الإسرائيلية صاحبة الحسم في حرب يونيو 67
كانالهدف واضحاً تماماً أمام وايزمان مثل كل القادة والمسئولين الإسرائيليينفأنكب على وضع خطة العمليات المقبلة لتحقيق السيطرة الجوية وتدمير الطيرانالمصري من الساعات الأولى للمعركة حتى أنه صرح فى عام 1963 "
فى حالةالحرب مع العرب، فإن أفضل أساليب الدفاع هو تجنب العمليات فوق أرض إسرائيلوالعمل على تهديد دمشق واحتلال الضفة الغربية والاندفاع نحو قناة السويس.فلو اكتفت إسرائيل بالدفاع عن تل أبيب، فسيكون ذلك انتحاراً جماعياً، إذليس أمامها أي عمق استراتيجي بري لذلك فإن العمق الاستراتيجي يجب أن يكونهو العمق الجوي. وهكذا حدد وايزمان فى عام 1963 الاستراتيجية الأساسيةلجولة يونيو 1967 قبل بدء الحرب بأربع سنوات" وكان هذا إنذار ثان مما سيحدث فى 1967 لكن كلمات وايزمان مرت كما مرت قبلها كلمات شيمون بيريز.
القوات الجوية المصرية :على الجانب المصري خرجت القوات الجوية المصرية من عمليات حرب 1956 وقدفقدت معظم طائراتها، ووضح للقيادة المصرية مدى أهمية القوات الجوية فى سيرالعمليات - لكنها كانت أهمية مظهرية - وانطلاقاً من هذه الأهمية اندفعتالقيادة نحو الاتحاد السوفيتي لعقد صفقات جديدة من الطائرات شملت مقاتلاتمن طراز ميج 15، ميج17 وقاذفات متوسطة طراز اليوشن 28 والتي بدأت تصلتباعا إلى مصر خلال عام 1957م.
وبتطور الأحداث السياسية فى المنطقة فى نهاية الخمسينات وتحول نظام الحكمالمصري إلى النظام الاشتراكي فى مطلع الستينات بدأت سياسة التسليح المصريةتتجه بكل ثقلها إلى الاتحاد السوفيتي .. وكان لهذا أثر كبير فى تغلغلالعقيدة الشرقية فى تنظيم وإعادة بناء القوات الجوية المصرية .. حيث كانتدريب الطيارين يتم فى روسيا وتشيكوسلوفاكيا .. وكذا الدورات الدراسيةالعليا للضباط والقادة.
وانتهى الأمر إلى أن أصبح الاتحاد السوفيتي هو المصدر الرئيسي الوحيدللطائرات والمعدات الفنية وأجهزة الرادار، فسيطر الفكر السوفيتي علىالقوات الجوية المصرية تنظيماً وتدريباً وتخطيطاً .. حيث ساد الاعتقاد بأنالاتحاد السوفيتي وهو إحدى القوى العظمى هو الأقدر والأدرى وأن صانعالطائرة هو خير من يستخدمها بأفضل تكتيك .. وساعد على ذلك الانغلاق التامعن أي خبرات أخرى فى الغرب نتيجة للموقف السياسي المعادي للغرب فى هذاالوقت.
وكان من نتائج هذا التحول إلى الشرق دفعة كبيرة للقوات الجوية المصرية فىأول الأمر بوصول طائرات مقاتلة ميج 19 وميج 21 الأسرع من الصوت وكذاالقاذفات الثقيلة طراز توبولوف 16 وذلك مع بداية الستينيات. ثم أصبح الأمرقيداً على القوات الجوية المصرية نتيجة لتحكم الاتحاد السوفيتي فى أنواعالطائرات وأعدادها التي يسمح بإمدادها لمصر بالإضافة إلى قطع الغيار التيكانت تؤثر كثيراً فى كفاءة القوات الجوية المصرية.
طائـــرة ميـــج21
الطائرة القاذفة الثقيلة توبولوف 16 (تى - يو16)
الطائرة القاذفة المتوسطة اليوشن28 (ال-28)
طائرات القوات الجوية المصرية (سوفيتية الصنع) فى يونيو 1967
وقد وضح ذلك بإمداد مصر فى بداية عام 1967 بطائرات السوخوى 7 وهي مقاتلةقاذفة ذات تسليح ضعيف .. وكفاءة متوسطة، لكن مصر اضطرت لقبولها لعدم وجودبديل لها.
ولم ترفع هذه الطائرات من كفاءة القوات الجوية المصرية بالقدر المتوقع نتيجة :-
1- سياسة التدريب الخاطئة التي لم تكن قائمة على أي تصور للعملياتالمتوقعة أو المهام المنتظر تنفيذها من الطيارين .. فالتدريب كان يتم علىارتفاعات عالية ومتوسطة بطريقة غير واقعية، أما الارتفاعات المنخفضة فقدكانت ممنوعة تماماً وتعتبر مخالفة لأوامر الطيران، وإن كانت تتم أحياناًبمبادرة فردية من الطيارين أو قائد السرب.
2- من الأمور الأساسية فى رفع الكفاءة القتالية للقوات الجوية أن يقومالطيارين بالتدريب المنتظم على قذف القنابل وإطلاق الصواريخ والمدافع بصفةدورية. لكن الطيار المصري فى هذه الآونة كان بعيد تماماً عن هذا التدريبلفترات امتدت شهور وأحياناً لسنوات.
3- ونظراً لأنه لم يكن هناك خطط تدريب واضحة فى التشكيلات والأسراب فإنمستوى التدريب لم يكن يتم لمستوى أكبر من رف (4 طائرة). إلا فى استعراض 23يوليو من كل عام حيث كان الطيران يتم بمستوى السرب (12 طائرة). وعلى هذاكان التدريب يسير بجهود فردية وخبرات شخصية من الطيارين وليس على منهجواضح ومحدد.
4- كانت الكفاءة الفنية للقوات الجوية طوال هذه الفترة دون المستوى لأسبابعديدة وهناك بعض الحوادث التي يمكن أن تلقى الضوء على الكفاءة الفنيةللطائرات أهمها :-
- ما حدث فى أسراب الميج 19 المقاتلة من حوادث اشتعال الطائرة أثناء إدارةالمحرك على الأرض وقد تكرر هذا أكثر من مرة وتوقف الطيران على هذا الطرازثلاث شهور حتى تم اكتشاف السبب الفني.
- تكرر عطل أجهزة القيادة والتحكم فى طائرات الميج 21 المقاتلة مما كانيجبر الطيار على القفز بالمظلة .. وبعد أن تكرر ذلك أيضاً أمر قائد القواتالجوية بإيقاف الطيران على هذا الطراز حتى تم علاج العطل الفني.
الرئيس عبدالناصر مع الضباط والجنود العائدين من اليمن
ولعبتحرب اليمن التي استمرت زهاء خمس سنوات دوراً بارزاً وملموساً فى هبوطكفاءة القوات الجوية المصرية. فبمجرد اندلاع الثورة اليمنية فى 26 سبتمبر1962 ودعم مصر السياسي لها منذ اللحظات الأولى تم إرسال سرب من طائراتتدريب الكلية الجوية طراز ياك 11 وهي طائرة مروحية تستخدم فى تدريب الطلبةقبل تخرجهم للعمل كضباط طيارين. تم تجهيزها بمدفع عيار 12.7 مم وتركيب 2حمالة صواريخ بالأجنحة تحملان 4 صواريخ صغيرة .. كان التصور أن تلكالطائرة كافية لتدعيم الثورة وتأمينها من ثورة وتمرد القبائل الغيرموالية. لكن الوضع تفاقم وتوالى إرسال الطائرات إلى اليمن حتى بلغ بعد عدةشهور سرب مقاتلات طراز ياك 11 - سرب مقاتلات طراز ميج 17 - سرب قاذفاتطراز اليوشن 28 - سرب نقل جوي طراز اليوشن 14 - سرب هليكوبتر طراز مى4. بلوتطور الأمر فى عام 1967 إلى إرسال سرب مقاتلات طراز ميج 19 كما وقامتالطائرات القاذفة التوبولوف 16 بقذف القنابل على اليمن منطلقة من قاعدةغرب القاهرة وهي رحلة كانت تستغرق حوالي ست ساعات ..
وفى غياب وسائل الدفاع الجوي المعادي تماماً كان يمكن أن تتم أعمال القواتالجوية المصرية فى مسرح عمليات اليمن دون خسائر تذكر وكأنها تدريب أومناورة. لكن لضعف كفاءة التدريب وضعف الحالة الفنية وضعف التخطيط خسرت مصرالعديد من الطائرات واستشهد عدد غير قليل من الطيارين، إما بواسطة حوادثللطائرات أو بالإصابة المباشرة من بعض الأسلحة الصغيرة مع اليمنيين.
ولم يقتصر الأمر على خسائر الطائرات والطيارين بل لعبت القيادة العسكريةالمصرية فى أثناء حرب اليمن دوراً هاماً فى طمس الروح الجماعية فى العمل،التي هي عصب أساسي فى أي قوات جوية. حيث تمت ترقية بعض الطياريناستثنائياً ومنحت بعض الامتيازات لهم وكان المعيار الأساسي لهذه الترقياتوالامتيازات بعيداً عن الكفاءة والجهد المبذول فى الميدان.
كما كان لحرب اليمن أثر واضح على الاقتصاد المصري انعكس بدوره على القواتالجوية فتأثرت به بصورة ملموسة وكان أوضح تلك الصور انخفاض عدد ساعاتالطيران المحددة للتدريب ..
فالطيـار المدرب ذو الكفاءة الجيدة والمكلف بواجب الاشتراك فى العملياتيجب أن ينفذ برنامج تدريب شهري يشمل أنواع معينة من التدريب بعدد ساعاتيتراوح بين 14-22 ساعة شهرياً .. لكن الطيار المصري فى هذه الآونة كانيطير بمعدل 6-10 ساعة شهرياً فقط.
أما الطائرات والتي يجب أن تكون على الأرض داخل ملاجئ تحميها من القصفالجوي المعادي فقد ظلت رابضة فى العراء فكانت هدفاً سهلاً للطائراتالإسرائيلية صباح الخامس من يونيو.
وكانت القوات الجوية المصرية قد تقدمت بطلب اعتماد ميزانية لإنشاء دشمبالمطارات شفوياً من الفريق محمد صدقي محمود قائد القوات الجوية لكنالرئيس جمال عبدالناصر رد قائلاً "أجيب قمح يا صدقي والا أبني دشمللطائرات" (حوار المؤلف مع الفريق أول محمد صدقي محمود - قائد القواتالجوية المصرية) .. وتم تقديم الطلب كتابة لإدراجه فى الميزانية المطلوبةلكن "لم يتصدق على الطلب تمشياً مع سياسة ضغط المصروفات والإنفاق علىالقوات المسلحة" (أقوال الشهود فى القضية 938/67 جنايات عسكرية القاهرة).[/size]