من طرق الأخباريين وعلماء التاريخ في سرد رواياتهم التاريخية .. نقلا عن مقدمة تاريخ الإمام الطبري (1)
" ... والطريقة التي سار عليها الطبري في كتابه هي طريقة المُحدِّثين -يعني علماء الحديث النبوي- ، بأن يذكر الحوادث مَرْوِيّة بمقدار ما عنده من الطرق
-يعني أنه قصد استيعاب وسرد جميع الروايات المسندة صحيحة كانت أو ضعيفة- ، ويذكر السَّنَدَ حتى يتّصل بصاحبه، لا يُبدي في ذلك رأيا في معظم الأحيان، وهذه هي الطريقة التي سلكها في معظم الكتاب؛ فيصرح باسم الكتاب أحيانا، أو ينقل عن المؤلفين من غير تعيين الكتاب الذي نقل عنه أحيانا.
وقد كان اعتماده هذا المنهج مثارا للنقد عند بعض الباحثين، فقالوا: إن سياقة الأخبار دون تمحيصها -يعني سرد الروايات دون الحكم عليها بالصحة أو الضعف- أمر لا يليق بالمؤرخ الناقد البصير، وإذا كانت طريقة رواية الخبر بذكر السند -مع كون رجاله معروفين عند علماء الجرح والتعديل- تضمن صحة الأخبار وتمحيصها في الأخبار التي وقعت في الإسلام؛ فإن هذه الطريقة تقصُر عن ضمان صحة ذلك فيما قبل الإسلام (2)
وخاصة وقد وقع في هذا التاريخ كثير من الأخبار الواهية -الضعيفة- والقصص الزائفة، كالإسرائيليات وبعض أخبار الفُرس، كما أورد أيضا كثيرا من الأحاديث الموضوعة كالأحاديث الواردة في بدء الخلق وسير الأنبياء مما لا يرتضيه المُحدِّثون -يعني: لا يقبلونه على مقاييسهم-.
وربما كان عذر الطبري في ذلك عذر رواة الحديث؛ فيذكرون الحديث بطرقه ورجاله؛ تاركين الحكم للقارئ أمانة للعلم وإبراء للذمة -إذ كان القارئ في عصرهم له سهم يضرب به في علم الرجال، فهم العرب العالمون بالأنساب- ." اهـ
===================
(1) من مقدمة كتاب تاريخ الطبري، الجزء الأول صـ 24، 25 بتحقيق العلّامة محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الرابعة، طبعة دار المعارف.
(2) انظر إلى هذه الجملة وما فيها من اعتقاد علماء التاريخ أن صحة الروايات والأخبار التاريخية وضعفها إنما يخضع لقوانين علم الرجال والجرح والتعديل، اللذان هما من فروع علم الحديث، كما أورت ذلك سلفا في ردودي مرات وتهكم بعض من لا علم عنده ولا حلم على عبارتي، فليرد إذن على علماء التاريخ!
فمن كان متكلما بعدُ بكلام في الروايات التاريخية فليذكرها بسندها فلان عن فلان عن فلان، ويتكلم بعدُ فيها من حيث القبول والرد بناء على شروط قبول الرواية الصحيحة، وهي كما قال الإمام السيوطي المؤرخ صاحب كتاب (تاريخ الخلفاء) في متن ألفيّته ..
حَدُّ الصَّحِيحِ مُسْنَدٌ بِوَصْلِهِ ~ بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطٍ عَنْ مِثْلِهِ
وَلَمْ يَكُنْ شَذًّا وَلَا مُعَلَّلَا ~ وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالضَّعْفِ عَلَى
ظَاهِرِهِ لَا الْقَطْعِ إِلَّا مَا حَوَى ~ كِتَابُ مُسْلِمٍ أَوِ الْجُعْفِي سِوَى
مَا انْتَقَدُوا فَابْنُ الصَّلَاحِ رَجَّحَا ~ قَطْعًا بِهِ، وَكَمْ إِمَامٍ جَنَحَا؟!
فشروط الرواية الصحيحة، تاريخية كانت أو حديثية، هي خمسة شروط:
أ- أن تكون الرواية متصلة من أول السند إلى منتهاه من غير سَقْطٍ في راوِ أو أكثر
ب- أن يكون جميع رواة الخبر موصوفين بالعدالة والصيانة والخلق والتقوى " إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ..."
ج- أن يكون جميع الرواة موصوفين بالإتقان في الحفظ والتثبت في الإخبار بالروايات، لم يثبت على أحدهم وهم ولا خلط ولا نسيان ولا ضعف ذاكرة!
د- سلامة الرواية من الشذوذ، بأن يكون الرواي لم يخالف من هو أوثق منه وأحفظ في روايته
ه- سلامة الرواية من العلل، ومثال العلة: كالاضطراب في الرواية، بأن تُروى مرة متصلة السند، ومرة بالإرسال كإسقاط أحد الرواة.
........................................
وبعدُ: فهذا هو العلم، صَلِفٌ، لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلّك، وأنت بعد أن تعطيه إياك كُلَّكَ على خطر، إما أن يعطيك وإما ألا يعطيك!
والعلم بحر لُجِّيٌّ، ومحيط لا يدرك ساحله، لا يخوضه إلا الأبطال ذوي الهِمم، وأما الذين لا يستطيعون القراءة، وأما الأعاجم واللُّكْن، وأما الأغرار الأغمار
ممن يتفاخرون بقدرتهم على السباحة، فإذا طولبوا بالدليل، جلسوا على الشاطئ ومدوا أرجلهم لتعانق الموج الخارج من اليمّ، فهؤلاء كالذباب، لاوزن لهم ولا قيمة!
ولا نقول لهم إلا .. اتقوا الله فقد جعلتم أمتنا ضُحكة الأمم، وصرنا -والله- بأفعالكم وسخافاتكم وترهاتكم كما قال القائل:
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم ..!