كانت حكومة كلنتون تأسس لترتيبات مدنية سياسية تتماشى مَعَ خطّ الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق أهداف دراسة فولتر. ولكن يبدو إن المسألة بدأت تأخذ أكثر جدية عام 2001م عندما وصل جورج بوش الابن لدفة الحكم وأصر على تطبيق خطته الموسومة "الحرب ذات الرؤوس الأربعة". ولهذا شهدت ساحة المعارضة العراقية نشاطا كبيراً من جانب ومجلس الأمن الدولي من جانب آخر. وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن متدربين للاضطلاع بمهام الحكم العراقي الجديد كما أسمته. ولعل حرب أفغانستان أدت جزءاً كبيراً من المهمة، ويمكن إن نستنتج إن الحرب على العراق كانت قادمة لا محالة مهما كلف الأمر من خلال التصريحات الأمريكية بشؤون العراق والأحداث التي توالت والتي يمكن إجمالها بما يلي:
1. كان دَكّ تشيني نائب الرئيس الأمريكي يصرح إننا لابُدَ من إن ننهي عملية كان من المفترض إنهاؤها قبل أكثر من عقد. ويتضح للمتتبع أنَّه لا يقصد القضاء على صدام فقط بقدر ما يريد إن يكمل مخطط السيطرة على العراق والمنطقة.
2. تصريحات دَكّ تشيني المتتالية بضرورة البقاء في العراق لمدة أربعة عقود حَتَّى يتغير التفكير العراقي في معاداته لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
3. تصريحات بأول بان الولايات المتحدة الأمريكية ستزيل صدام لتبقى هناك ولم تنسحب وتترك العراق إِلى فوضى وحرب أهلية حسب قوله.
4. عمل الولايات المتحدة الأمريكية على تجنيد أكثر من 77 ألف عسكري غير أمريكي ووعدتهم بمنحهم الجنسية الأمريكية لقاء المشاركة. وذلك لمنع مأساة فيتنام إذا طالت مدة الحرب وكي لا تكون الخسائر البشرية مؤثرة في الشارع الأمريكي.
5. العمل على ترويض المنطقة قبل شنّ الهجوم على العراق وإشعارهم بأنهم قادمين لا محالة وَلابُدَّ إن يرضخوا لهذه الحقيقة. كما عملت ترتيباتها مَعَ الدول العربية والشرق أوسطية الأُخرى على اتخاذ التدابير لعدم خروج شعوبهم للشارع والتلويح بمظاهراتهم ضدّ توجهات الولايات المتحدة الأمريكية. وبالفعل شهدت تركيا ومصر والمغرب ولبنان ودول أُخرى قمعاً للمظاهرات الرافضة للحرب.
6. التصعيد الذي صاحب لهجة بوش في تهديد استعمال القوة حَتَّى بدون قرار من مجلس الأمن إذا لم يرضخ صدام لقبول المفتشين وتدمير أسلحته. وتهديده الدول الأُخرى مُنْذُ حرب أفغانستان بأن من لم يكن معنا فهو في الخندق الذي يواجهنا. مما أدى إِلى تكالب الدول الشرق أوسطية لمنحه الولاء من جهة والطلب بعدم إعلان مساهمتهم ودعمهم إعلامياً حسب ما قال وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد للصحافة الأمريكية في السابع من آب/أُغسطس عام 2002م.
7. ضعف الدول الكبرى في مجلس الأمن للوقوف أمام توجهات الولايات المتحدة الأمريكية خوفاً من محاصرتها اقتصادياً. بالإضافة إِلى تفاوض الأخيرة معهم وإعطائهم تعهدات بضمان مصالحهم المستقبلية في العراق إذا لم يقفوا أمام توجهاتها باتخاذ حَقّ النقض "الفيتو"، ضدّ أيّ قرار يتخذ بشنّ الحرب على العراق من جانب وبالضغط على العراق بقبول المفتشين وتدمير أسلحته التقليدية من جانب آخر.
8. إعطاء برنامج العراق التسليحي أهمية أكبر من حجمه على الرغم من معرفتهم بعدم امتلاكه له. ولعل التقرير الذي ألقاه وزير الخارجية الأمريكي كولن باول وبدعم من رئيس وكالة المخابرات الأمريكية في حينها جون تينت في الثاني عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2002م خير دليل على تلك الأُسطورة. إذ اعترف باول في العشرين من مايو/مارس 2004م بالأكاذيب التي وردت في التقرير وإن الولايات المتحدة الأمريكية فَقَدَتْ الأمل في إيجاد أيّ سلاح تدمير شامل في العراق أَو قابليته على امتلاكه.
لم تمرّ إلا أشهر عديدة من عام 2002م حَتَّى بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تعد العدة لعقد مؤتمر شامل للمعارضة العراقية. الهدف منه كان تأكيد المحاصصة الطائفية والعرقية التي أقرتها في مؤتمري فينا وأربيل واستمرّت تروج لها من خلال إعلامها الموجه. وصاحب العمل الأمريكي قبل انعقاد المؤتمر ترويض وتدريب وارتباط شخصيات مختلفة لهذا المشروع منها دينية ومنها سياسية ومنها اجتماعية. ولعل من أبرز تلك الشخصيات التي تَمَّ تدريبها لتأخذ دوراً جديداً في العراق مجيد الخوئي. إذ كان دوره يستند إِلى أُطروحة تدويل النجف واعتبارها مدينة مقدسة لا دخل لها في سياسة العراق المستقبلية. وكان الهدف من هذا المشروع هو إفراغ الشيعة من محتواهم السياسي وارتباطهم بالواقع المذهبي في المناسبات فقط كما هو الحاصل الآن مَعَ الفاتيكان. وفي غضون 10-13 كانون الأول/ ديسمبر 2001م تَمَّ عقد المؤتمر في فندق هلتن بأُجور رود بلندن. وحرصت الولايات المتحدة الأمريكية على إدخال كُلّ التشكيلات والشخصيات السياسية في هذا المؤتمر.
وتمكنت من إن تحشد له حشداً كبيراً وغطته إعلامياً. وتمكن مبعوث الرئيس بوش زلماي خليل زاده (ذُو الأصل الأفغاني المتجنس أمريكياً) من لعب دور مخابراتي كبير لرسم صورة العراق وما سيحدث وفق مخطط جاهز. وعلى الرغم من تغيب أحزاب وشخصيات كثيرة كالحزب الإسلامي العراقي وحزب الدعوة الإسلامية والحزب الشيوعي إلا إن زلماي حرص على لقائهم سرّاً وتوضيح الأمر بضرورة الانضمام للقطار الأمريكي. وَتَمَّ الاتفاق بالموافقة ولكن دون الإعلان عن ما تَمَّ الاتفاق عليه. وحرص أَيضاً على لقاء شخصيات عراقية سياسية معارضة للمؤتمر خارج إطاره لتوضيح ضرورة الالتحاق بعجلة المؤتمر.
لَقَدْ أصر موفد الرئيس الأمريكي لحضور مؤتمر المعارضة العراقية على مقابلتنا لاستيضاح أسباب رفضنا المشاركة في المؤتمر وعدم موافقتنا لما يخطط له من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. وتمت مقابلته في أروقة فندق هلتن بعد انتهاء المؤتمر بيوم واحد وأبلغته في لقائنا، إننا لا يمكننا إن نوقف زحف الولايات المتحدة الأمريكية تجاه العراق لكوننا لسنا بدولة أَو نتمتع بقوة تمكننا من مقارعة ذلك. وعلى الرغم من إن سقوط النظام يمثل أكبر طموحاتنا ولكن على إن لا يكون الثمن هو العراق. كما أبلغناه أنَّه من المؤسف حَقّاً إن يتم تدمير بلد بأكمله وقتل شعب يتكون من ثمانية وعشرين مليوناً لإزالة شخص صدام وحفنة من المجرمين مَعَهُ، وباعتقادنا إن الولايات المتحدة الأمريكية لديها أساليب أُخرى يمكن اتّباعها لإزالته دون اللجوء للحرب. وباعتقادنا إن صدام وحكمه أضعف مما تعتقدون أنتم أَو تروجون له ولو سمحتم باستقلالية المعارضة التي توجهونها لسقط صدام مُنْذُ عقد.
وعليه فإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية مصممة على خوض الحرب فإنّ رفضنا يستند إِلى ضرورات مهمة يستوجب على الولايات المتحدة الأمريكية توضيحها، وإن تتعهد بالالتزام بها قبل بدأ حربها على العراق. لنكون على الأقل قَدْ وفينا لشعبنا العراقي بعض الشيء. كانت الأمور التي طرحناها على زلماي تتلخص بالنقاط الخمس التالية:
1. مدى مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية بالانسحاب من العراق حال الانتهاء من العمليات الحربية وضرورة وضع جدول بذلك يتم اتفاق فصائل المعارضة والولايات المتحدة الأمريكية عليه قبل بدء العمليات.
2. ضرورة كشف الولايات المتحدة الأمريكية عن نوع السلاح الذي تنوي استخدامه في العراق وعدم تجربة أيّ نوع جديد لم يجرب من قبل. لكي لا تتلوث المنطقة بالأسلحة الفتاكة مثلما حدث في حرب عام 1991م التي أدت إِلى مأساة إنسانية وأمراض سرطانية وتشوهات ولادية نتيجة استعمال اليورانيوم المستنفذ.
3. أطلعنا على الملف الذي أعدته الولايات المتحدة الأمريكية مَعَ بعض عناصر المؤتمر الوطني العراقي الموسوم بـ: "نحو التغير الديمقراطي في العراق Toward Democracy in Iraq"، ووجدنا إن هناك نية لتحطيم مؤسسات الدولة العراقية ومعاملها الخدمية والإنتاجية ونحن بدورنا نريد ضمانات بعدم المساس بتلك المؤسسات والحفاظ عليها لأنها تمثل مصادر حية لديمومة الاقتصاد العراقي المستقبلي بالإضافة إِلى ضرورة ضمان توفر العمل للعراقيين من خلال المحافظة عليها. وسنقوم بتزويدكم بأسماء البعثيين الكبار العاملين في هذه المؤسسات لإلقاء القبض عليهم وتقديمهم للمحاكمة إن أجرموا أَو ساهموا في فساد الدولة العراقية طيلة فترة حكم صدام حسين.
4. تقديم صدام وزمرته والذين اقترفوا جرائم بحَقّ الشعب العراقي من البعثيين إِلى المحاكمة العلنية العادلة في خلال ثلاثة أشهر من سقوط النظام. وفتح مراكز في مدن العراق لجمع المعلومات من المواطنين بالجرائم التي نفذت بحقّهم.
5. مؤتمر لندن استعمل المحاصصة الطائفية والعرقية ويبدو إن هذا التوجه سوف يؤدي إِلى عدم استقرار العراق وكتابة دستوره الدائم وإقرار القانون كسيد للمجتمع لا يعلوه أحد. وسوف تنتهي الأمور برأينا إِلى الفوضى إذا ما استمرّت تلك المحاصصة، لذا نرتأي إن تكون المحاصصة إذا كان لابُدَ منها محاصصة عرقية عربي - كردي - تركماني بدلاً من خلطها مَعَ بعضها البعض من الطائفية والعرقية. ويجب إن تكون بالاستناد إِلى الكثافة السكانية وإدخال عراقي الداخل في تلك المحاصصة بنسبة 70%. وبعد المحاصصة العرقية تتم في داخلها المحاصصة الطائفية ولو نحن ضدّ هذا التوجه بالكامل.
رفض زلماي نقاطنا الخمسة أعلاه جملة وتفصيلاً وأبلغنا إن الولايات والمتحدة الأمريكية غير ملزمة بإعطاء التزامات أَو وعود لأيّ كان وإن من لم يسير معها في هذا الركب سوف لن تكون له أية مساهمة في بناء العراق الجديد كما أسماها.